يقول اسبينوزا: "لا شيء يدعو للبكاء، لا شيء يدعو للضحك، كل شيء يدعو للفهم."
بدأت الحكاية منذ البداية، من خلال استعمار كامل لما سمي
بفلسطين التاريخية، ردا على لعبة من يرمي الآخر في البحر التي كانت بين التيار
القومي العروبي بقيادة جمال عبد الناصر، وبين اليمين الإسرائيلي. فعرفنا جميعا كيف
انتهت القصة، بعد معاهدة أوسلو سنة 1993، ربح الفلسطينيون تحت القيادة القومية
العروبية لمنظمة التحرير الفلسطينية، سلطة وطنية واستقلال ذاتي، مع ما منحه ذلك من
شخصية اعتبارية للفلسطيني الذي أضحى يحظى بدولة واستقلال، لم يكن كاملا بطبيعة
الحال، ولكن لأول مرة في التاريخ، لأنه كما ذكرنا في مقالة سابقة لم تكن فلسطين قط
عبر تاريخ الإنسانية كيانا مستقلا، بل كانت تابعة للإمبراطوريات التي تعاقبت على
المنطقة آخرها الإمبراطورية العثمانية، لكن أوسلو منح الفلسطينيين هوية وطنية
حديثة على شكل باقي الدول القومية التي تعتبر افرازا موضوعيا للحداثة السياسية،
فأصبح لسكان قطاع غزة و الضفة الغربية كافة الشروط كدولة بما فيها الشروط الثلاث
المعروفة : الأرض والسكان والحكومة. وأصبح الفلسطيني لأول مرة يحمل بطاقة هوية
وطنية وجواز سفر وعلم ونشيد وطني وحكومة ومؤسسات، رغم أن التيار العدمي اليميني
المتطرف في فلسطين وحتى في إسرائيل رفض هذا الأمر جملة وتفصيلا. ولو سارت الأمور بشكل جيد مع احترام روح أوسلو،
كانت فلسطين ستصبح دولة مستقلة تماما عن أي تنسيق أمني مع إسرائيل عاصمتها القدس
الشرقية. لكن مع ظهور الإيديولوجيا الإخوانية الدينية تغيرت الأمور بشكل جذري ورجع
الفلسطينيون إلى المربع الأول، لأن غزة التي استولى عليها التيار الديني العنيف،
اختارت هذه المرة "المقاومة"، لكن ليس بالمعنى القومي، ولكن تم استغلال
العاطفة الدينية الأكثر تأثيرا لحشد الجماهير من جديد نحو حل راديكالي عنيف أي
جهاد ديني، وتم الاستيلاء على غزة بالقوة، وبدأ التيار الديني الإخواني بتخوين
السلطة الفلسطينية وحركة فتح وقياداتها، وتم تغيير رمزية ياسر عرفات، برمزية أحمد
ياسين، وكانت الظروف مواتية لهيمنة هذا التيار داخل غزة، من خلال الزخم الدولي
الذي رافق صعود الحركات الدينية والإرهابية في الشرق الأوسط.
لكن مع تراجع زخم هذه الحركات تحالفت حماس مع ما يسمى "تيار الممانعة"، التي تقوده
إيران وهي نظام إيديولوجي عنيف يؤمن بالعنف كسبيل لحل المشاكل، إذن الأمر طبيعي
جدا والتناول العاطفي لمسألة غزة لن يعطي
فهما سليما للقضية، حماس بقيادة إيران قامت بمغامرة، يوم سابع أكتوبر 2023، وكانت محمولة بعاطفة دينية جياشة، ومادامت قد قامت
بمغامرة فعليها الالتزام بمنطق المغامرة، وهو إما الربح أو الخسارة، ولايجب أن
ننسى كيف أن غالبية الرأي العام العربي، هلل
لمشاهد العنف التي ظهرت صبيحة يوم
السابع من أكتوبر، فقط بعض العقلاء، لم
يحملهم الحماس، لفهم أن الآتي سيكون أعنف
وأصعب بالنسبة لسكان غزة وحتى كذلك للمسألة الفلسطينية عموما.
من الحماس الديني إلى الاستجداء العاطفي:
نتائج مغامرة حماس، ظهرت نتائجها منذ أن تم اغتيال كل
القيادات التي دبرت العملية، ليس فقط قيادات حماس، بل حتى القيادات الشيعية بما
فيها "الزعيم المبجل" حسن نصر، ثم شنت إسرائيل عمليات عسكرية في العمق
الإيراني، وهو ما أدى إلى موت ما يسمى بخط المقاومة، خاصة مع سقوط نظام بشار،
وتراجع حزب الله، وانكفاء إيران. العمليات العسكرية الآن التي تقودها إسرائيل
مركزة على غزة، من خلال العمليات الميدانية التي أراد لها الإسرائيليون أن تكون
" تطهيرا لغزة من حماس". لكن التيار الإخواني لحماس، يلعب سياسة، ومازال
يمارسها حتى من تحت الأنفاق، لا تريد حماس التخلي عن كل أوراقها، مادامت البنادق
الإسرائيلية لم تصل بعد إلى رؤوس العسكريين الحماسويين في الأنفاق، لكن الأخطر
والذي يبين العقيدة المتطرفة لعصابات حماس، هو عدم مراعاتها للمآسي التي يعيشها
المدنيون فوق الأنفاق. بل إنهم في الكثير من الأحيان يختلطون مع المدنيين، وكل من
خرج من تحت عصى الطاعة، يرمى بالسلاح أمام الجميع، وهكذا، الضحية الأكبر في هذا
الصراع هو المواطن الغزاوي، الذي أصبح بين نارين: نار الجيش الإسرائيلي، ونار
العصابات الإخوانية.
في ظل هذا الوضع
العسكري، تستغل حماس المأساة الإنسانية للعب أوراق سياسية ضيقة، وهو ما يبين بشاعة
هذا التيار الذي لا يقل عن بشاعة الجيش الإسرائيلي، لأن كلا الطرفين عبارة عن
عصابات دينية وقومية لا تنظر للعالم بعين الاختلاف والقدرة على التعايش، لذلك لا
يمكن أ تتأسس ديموقراطية سواء في إسرائيل أو فلسطين أو حتى الشرق الأوسط، دون هضم
ثقافي حقيقي للقيم الإنسانية الجمعاء.
برودة الواقع:
هل تنتهي الحرب في غزة؟
الجواب قطعا نعم، لكل شيء بداية ونهاية، لكن هناك سؤال آخر: كيف ستنتهي هذه
الحرب؟ الجواب حينما تحقق، أهدافها، هناك إيديولوجيات تتقاتل، منذ نهاية الحرب
العالمية الثانية، أهمها الإيديولوجية الدينية وهي الأعمق والأكثر تجذرا، لأنها لا
تظهر كإيديولوجيا فقط، بل كثقافة يعيشها البشر في المناطق التي ينتشر فيها
الإسلام، ينظر الجميع إلى الإسلام دين ودولة، ومن الصعب أن يتم فصل هذا الأمر في الأذهان،
خاصة في الظروف الاجتماعية والاقتصادية الخانقة، فهذه الإيديولوجيا، تصبح هي
المتنفس الوحيد لتنفيش الضغط، فيستغل الديماغوجيون الأذكياء، كحماس في هذه الحالة.
ثم هناك
الإيديولوجية القومية اللاحقة، وهي كذلك، الأكثر تجذرا من الناحية العاطفية، لأنها
مرتبطة بهوية الفرد وكيف يعرف نفسه، لذلك نرى كيف أن القومية العربية لعبت وما
تزال تلعب على عقول وعواطف جزء كبير من الجماهير في الشرق الأوسط، رغم تضعضع هذه
الإيديولوجيا، ثم الإيديولوجيا الاشتراكية التي امتزجت بالقومية، فأصبحت اشتراكية
قومية محلية، شكلت بدورها الكثير من الصراعات بين التيارات الاشتراكية العربية
نفسها. بقيت إيديولوجية واحدة لم يتم تبنيها من طرف الجماهير لأنها أقل بريقا من الإيديولوجيات
الأخرى، لأنها ليست جماهيرية، فالشرق
الأوسط يتضمن جماهير متعطشة لطوباويات ومثاليات تنقلها من الواقع المأزوم نحو الغد الأجمل، ليس اليوم فقط بل منذ غابر الازمان، الجماهير العربية في انتظار مهدي منتظر يخلصها
من العذاب، وليس بشكل فردي بل بشكل جماعي،
وهو الأمر الذي يتعارض مع إيديولوجيا
الحرية أو الليبرالية التي تركز على الفرد ، وتحمله كامل المسؤولية على وضعه، وهو
الامر الذي لا ينسجم مع المزاج الذهني للمناطق العربية، ولكن العالم اليوم لا
يمكن أن تنخرط فيه دون أن تتبنى هذه
المفاهيم الليبرالية، الفرد الحرية
الاختلاف، التعددية، الحوار بدل العنف،
التعايش بدل الحرب.
عود على بدء: في المسألة الثقافية من جديد
حماس، أو حزب الليكود،
كلها تيارات دينية متشددة، وقد التقت في أرض القدس، وتتقاتل من أجل الوجود،
المسلمين والعرب، وهم الأكثرية يرفضون في صميم أرواحهم، وجود دولة في " خاصرة
الأمة العربية الإسلامية"، وإسرائيل بدورها تسعى لاستعادة مملكة أورشليم بكل
روحها، وهنا نسقط في ظهور العنف كما تحدث عن ذلك الأنثروبولوجي الفرنسي بيير جانيت.
الحل في ظل هذا الوضع، هو الحوار، خاصة
للطرف الفلسطيني لأنه الأضعف في المعادلة،
وعليه أن يفهم أن لغة الحماسة التي كانت تميز قصائد الجاهلية، لم تعد تعطي أي نتيجة في عالم اليوم، لذلك شاهدنا كيف أن الرأي العام
العربي يحاول عبر وسائل التواصل الاجتماعي استجداء العالم للتعاطف معه، ولكن لا يفهم أن المنطق والعقلانية والواقعية
هي التي بدأت تسيطر على كل مناحي الحياة المعاصرة، حتى في أكثر الجوانب حميمة في
حياة الإنسان المعاصر، الحماس الحمساوي
المنطلق يوم 7 أكتوبر لم ينجح، والمغامرة
غير الواقعية آلت إلى الوضع الحالي، وما دام المقامر يغامر بدون تفكير لا بد عليه
أن يتذكر أنه غامر، والمغامرة بطبيعتها
خطيرة جدا، وهو ما جعل حماس ومعتقليها من
سكان غزة يصلون إلى هذا الوضع. عليهم الآن أن ينصاعوا لمنطق السياسة والحوار، وعلى
حماس أن تتنازل عن الصلابة التي تغذيها الأوهام الدينية، وأن تخرج من جحورها،
وتعقد لن نقول صفقة لكن اتفاق يحترم العالم بأسره، كما احترم معاهدة أوسلو.
أما مصيرها فقد بات وشيكا، وسيتم التنكيل لما تبقى من
هذه الجماعة بشكل بشع جدا، والتاريخ بيننا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire