![]() |
مدخل: من الحداثة إلى ما بعد الحداثة
قبل
الخوض في علاقة الدراسات ما بعد الكولونيالية التي ظهرت في السياق الأمريكي وأثرت
في تيارات واسعة من المفكرين. لابد قبل كل ذلك من وضع هذا التيار الفكري في سياقه
التاريخي، كي تنجلي لنا بعض العناصر المهمة لمقاربة هذا الإشكال، كما لا ننسى أن
الدراسات النسوية ودراسات النوع الاجتماعي تحديدا، ظهرت كذلك في نفس السياق،
وتطورت بشكل متزامن في أغلب الأحيان. ستلتقي هذه الدراسات فيما بينها وستشكل مجالا
واسعا يسمى بدراسة "التابع "، (1)
سواء كان التابع ثقافة بالنسبة لثقافة أخرى كما هو
الشأن بالنسبة للغرب في علاقته بالأطراف الأخرى الأقل تقدما منه(2)،
أو السائرة في طريق التقدم للحاق به، أو كذلك الأمر بالنسبة للمرأة في علاقتها
بالرجل، أو كذا الأمر في علاقة " الجنسانية الإيروتيكية" في علاقتاها
بباقي الهويات الجنسية الأخرى.(3) أو كذا بدراسة الصراع الطبقي الذي طورته
الدراسات الماركسية و مابعد الماركسية(4) أو
غيرها من المذاهب الفكرية والمدارس الفلسفية التي تطورت بعد فترة الحرب العالمية
تحديدا ( كالبنيوية وما البنيوية والتحليل النفسي وغيرها) التي أخذت على عاتقها
إعادة النظر في السردية الغربية ( ليوتار) ومحاولة الكشف عن أنساق وسرديات أخرى
جديدة أو حتى محاولة القضاء على كل ميتافيزيقا كما دعا إلى ذلك ( هيدجر) وأنجزه
دريدا في تأسيسه للفلسفة التفكيكية، أو حتى باقي المفكرين الفرنسيين تحديدا خاصة
أعمال ( جاك لاكان و جيل دولوز و مشيل فوكو) الذين بلوروا مشاريع فكرية مغايرة
تماما لما كان سابقا عليهم خاصة فكرة التنوير والسردية الغربية القائمة على
العقلانية كأساس ميتافزيقي والفردانية كإطار فلسفي والديموقراطية كأساس سياسي والرأسمالية كنظام اقتصادي. هذه الأفكار التي
ظهرت في سياق أوروبي بالأساس، لكن التي سترتحل (إما بفضل هجرة هؤلاء إلى أمريكا أو
تلقي تلك الأفكار بطرق غير مباشرة) إلى السياق الأمريكي تحديدا، فيما عرف ب
«النظرية الفرنسية French Theory ". والجدير
بالذكر أن كل هذه الأفكار والنظريات جاءت كرد فعل على ميتافيزيقا الغرب وبدأ الأمر
منذ الرومانسيين الألمان الذين أردوا إعادة إحياء لقرون الوسطى) 5)والذين
سيعتبر الفيلسوف فردريك نيتشه التجلي الأبرز لهم، وهو صاحب الفلسفة الداعية إلى
تحطيم كل الأوثان وآخرها (العقل). وهو الذي سيكون له التأثير الأكبر على الفكر
الفلسفي للقرن العشرين. وكل هذه المنظومة التي نتحدث عنها تنتمي إلى موجة أخرى من
الفكر الإنساني هي ما يسمى ب "ما بعد الحداثة"(6) وهو
الاتجاه الذي جاء كرد فعل على الحداثة الغربية القائمة على إرث عصر التنوير، لكن
الأحداث الجسيمة ستدفع بتطور مثل هذه الأفكار خاصة في السياق الغربي، مع التأكيد
على أن بعض المثقفين في السياق الإسلامي يرفضون أصلا هذا الفكر ويبررون رفضهم أن
الفكر الإسلامي ليس في حاجة إلى ما بعد الحداثة مادام أصلا لم يعرف الحداثة ولم
يستوعبها كما يذهب إلى ذلك المؤرخ المغربي عبد الله العروي.
إذن
سنحاول في هذه الورقة الحديث عن دراسات تنتمي إلى هذا السياق التاريخي والنظري
خاصة الدراسات ما بعد الكولونيالية، وتقاطعها مع الدراسات النسوية والنقد النسوي للحداثة
الغربية. وكيف يعتبر النقد النسوي نقذا ثقافيا لخطاب الحداثة يتقاطع مع نقود أخرى
تعمل على نفس الهدف وهو "نزع الهيمنة" بكل تجلياتها، الجنسية والثقافية
والسياسية والاقتصادية.
الدراسات النسوية: من النسوية إلى النوع
قبل
الخوض في الإشكالية المطروحة، لابد في البداية من الحديث عن تطور الحركة النسوية
في الغرب. لأن هذه الحركة وكذا الدراسات ما بعد الكولونيالية تطورت في ذلك السياق
خاصة في الجامعات الأمريكية، التي انتقلت إليها كما قلنا في السابق، فلسفة
الاختلاف التي طورها الفلاسفة الفرنسيين خصوصا مشيل فوكو في أعماله حول نظام
الخطاب وجاك دريدا في تفكيكه للميتافيزيقا الغربية، وجيل دولوز حول فلسفته
للاختلاف. هؤلاء الذين بدورهم تأثروا بالفلسفة الألمانية على الخصوص جنيالوجيا
فردريك نيتشه ووجودية مارتن هايدجر، والإرث الماركسي، ولا ننسى الدراسات المهمة في
مجال اللسانيات التي طورها جاك لاكان عن دوسوسير. إذن كل هذه "الإشكالات
الثقافية". ونسميها كذلك لأنها تتعلق بنقد جذري لخطاب الحداثة الغربية
باعتبارها الميتافيزيقا المركزية للعالم الحديث في علاقته بالإفرازات الناتجة عن
التقاء هذه الحداثة بالأطراف المتأخرة عنها، وهو ما يدعى في كتابات مثقفي ما بعد
الاستعمار ب " لهامش". هذا الهامش أي كل الثقافات والحضارات الانسانية
التي اصطدمت بالحداثة كسردية جديدة للعالم، لم تنتجها هذه الهوامش لكن كانت بسبب
عوامل تاريخية وسياسية واقتصادية في حالة اصطدام مع الغرب، الذي أدى إلى
استعمارها، وهذا الأخير الذي كان بدوره ضحية مكر التاريخ. بمعنى أنه أدى إلى إيقاظ
الشعوب الذي كانت متأخرة عنه تاريخيا.(7) ولكن في نفس الوقت كان ذلك سببا في أزمته
الحالية، لأنه قام بخيانة لمبادئه الإنسية، وأيقظ لدى الشعوب المستعمرة شعورا بالهيمنة
تحول إلى اجتهادات نظرية أكاديمية في قلب الغرب نفسه. ولكن لا يجب أن نخلط
المفاهيم كما يقوم بذلك البعض، لأن حتى الغرب كمفهوم لم يولد مرة واحدة، بل كانت
هناك سيرورة تاريخية تميزت بالصراع والصدام بين الأطراف التي تُكونه، كأوروبا
وأمريكا الغربية وبعض الدول الآسيوية كاليابان. (8)فهذه
الدول رغم أنها تنتمي إلى الغرب لكن لم تغدُ كذلك إلا بعض صراع طويل ويكفي هنا أن
نذكر مثال ألمانيا في أوروبا واليابان في آسيا لنؤكد صدق هذا الطرح.
![]() |
المفكر الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد 1935-2003 |
الحركة
النسوية لم تشكل كحركة سياسية، إلا خلال عصر التنوير، وخاصة بعد الثورة الفرنسية سنة
1789، التي أطاحت بالنظام الملكي والاقطاعي، وفي تلك الأثناء نشأت حركة نسوية من
وسط الأطراف المتصارعة غداة الثورة، ولعل أشهر وجوه تلك المرحلة هي الكاتبة أولمب
دوغوغ(1793-1748) Olympe de Gouges التي
أصدرت مع رفيقاتها إعلان حقوق المرأة والمواطنة " 5 ديسمبر 1791، على غرار
" إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الصادر 26 غشت 1789 وكان مطلب النساء
الأساسي هو حق التصويت، والولوج إلى مراكز القرار العمومية، وحق الملكية وغيرها.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية يتم إعتبار تاريخ 19 و20 يوليوز 1848، الذي يصادف
"اتفاقية سينيكا فولز Convention de Seneca Falls "، التي اعترفت بحقوق النساء في الولايات المتحدة الأمريكية.
كالانطلاقة الفعلية للحركة النسوية العالمية.
تعرف هذه
المرحلة الأولى من النضال النسوي في أدبيات الحركة النسوية ب " الموجة
الأولى". وقد كان مطلبها الرئيسي هو الاعتراف بالحقوق السياسية والاقتصادية
بشكل أساسي.
أما "الموجة الثانية" فقد ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وازدهرت في الستينيات وحتى منتصف السبعينات، وكانت طليعتها المجموعة اليسارية، وتأثرت هذه الموجة بالأفكار الاشتراكية وحقوق العمال، وتم نقد التفرقة بين الجنسين باعتباره نتاج التنشئة والمجتمع الظالم، وطرحت فكرة المساواة الجنسية وفكرة الجندر، ودعت إلى إعادة تشكيل الصورة الثقافية للأنوثة.(9) وأخيرا «الموجة الثالثة" جاءت بعد تحول النسوية لفكرة عالمية وسمّيت ما بعد النسوية واعتمدت على تحولات ما بعد الحداثة في النظر إلى الذات العارفة ودورها في عملية المعرفة وأضافت إليها تأثيرات الجنوسة، فظهرت النسوية السوداء ونسوية العالم الثالث، وأصبح هناك اهتمام بسياسات الهوية والشواغل الثقافية للمرأة." (10)
داخل هذا
التيار، برز مفهوم النسوية الثقافية أو النسوية “التقاطعية” عندما صاغت الحقوقية
الأميركية كيمبرلي ويليامز كرينشو هذا المصطلح سنة 1989 في مقالتها بعنوان “إلغاء
الهامش: التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات”، لوصف وتحليل تجارب
الاضطهاد والتمييز المتنوعة التي تتعرض لها النساء السود في أميركا، أو بالأحرى
الإشارة إلى السبل المختلفة التي يتفاعل بها العنصر والجنوسة لتشكيل الأبعاد
المختلفة لخبرات النساء السود. (11) فكان
مفهوم “النسوية التقاطعية” رداً على “النسوية البيضاء” التي كانت مُهيمنة على
الفكر الغربي الأميركي والتي تُركز فقط على تجارب النساء البيض متجاهلةً تجارب
النساء من باقي الأعراق والخلفيات والطبقات الاجتماعية. من هنا فإن مصطلح “النسوية
التقاطعية” يُشير إلى كيف تُؤثر نُظم القمع والاضطهاد المنهجية على تجارب النساء
المتنوعة وفقاً لتقاطع عوامل مختلفة كالجندر والعرق والطبقة الاجتماعية والدين
والأصل الوطني والإعاقة والمستوى التعليمي والتوجه الجنسي.
(12) ففكرة
التقاطعية (Intersectionality) كإطار
تحليلي هو محاولة لفهم تجارب النساء الملوّنات وتقاطع مصادر الاضطهاد اللاتي
تعانين منه سواء على أساس اللون (العرق) أو الجنس، بحيث يمكن الوصول إلى نسوية
أكثر شمولية. وتطورت هذه النظرية بعد ذلك لتشمل كل تقاطعات أشكال وأنظمة القهر
والهيمنة والتمييز وتفاعل ذلك مع الجندر والعرق واللون والطبقة الاقتصادية
والاجتماعية والميل الجنسي والتوجه الجندري والقدرات العقلية والجسدية، لفهم تجارب
النساء المركّبة.
الاشتباك النظري بين دراسات التابع ودراسات النوع والدراسات ما بعد
الكولونيالية:
"ما
بعد الكولونيالية" نظرية تحلّل الخطاب الاستعماري وتُعيد قراءة التاريخ من
وجهة نظر المستعمَر، تأسست على يد إدوارد سعيد وهومي بابا والمفكرة الهندية
البغالية غياتري سبيفاك الذين يدعوهم روبرت يانغ « الثالوث المقدّس للنظرية ما بعد
الكولونيالية». كان كتاب «الاستشراق» لسعيد كتاباً تأسيسياً لهذه النظرية مارس
تأثيره على كلّ من أتوا من النقاد ما بعد الكولونياليين. النظرية أو الدراسات ما
بعد الكولونيالية حقل معرفي حديث نسبياً تعود إرهاصاته إلى خمسينات القرن العشرين
من خلال أعمال فرانز فانون وجورج لمينغ وألبير ميمي ثمّ تبلورت أطره المعرفية
والمنهجية منذ أواخر السبعينات من القرن المنصرم.
(13)
نموذج الباحثة غاياتري شاكرافورتي سبيفاك:
![]() |
المفكرة الهندية الأمريكية غياتاري سبيفاك 1942- |
انطلق
اشتغال سبيفاك على الدراسات النسوية من خلال اطلاعها على الأعمال التفكيكية لجاك
دريدا، وهي أول من قدم ترجمة لكتابه "الكراماتولوجي". لكن رغم إعجابها
به فإنها انتقدت تفكيكيته فيما يتصل بالنوع، فهي ترى أنه استخدم فئة المرأة ليعيد
إثبات خطاب الرجل، لكنها تعتقد أيضا أنه يمكن استخدام التفكيكية بوصفها استراتيجية
نسوية. ورغم أن دريدا انتقد مركزية القضيب فإن سبيفاك تذهب إلى أنه سيستولي على
(إزاحة المرأة). وتفسر هذه الإزاحة بمثال النشوة التي يمكن للمرأة أن تتظاهر بها
ولا يمكن للرجل أن يفعل ذلك. إذا كان الرجل يدل على الحضور فإن تزيح الحضور،
وتحاول التفكيكية أن تحلل عدم يقين الحضور في النصية وعملية الكتابة. فكّكت
الناقدات ما بعد النسويات ومن بينهن سبيفاك طبعا، الأسس الأبوية الذكورية للنظرية
الأدبية القائمة على الأعراف الأنجلو - ساكسونية البيضاء والمركزية النقدية
الغربية الأوروبية، ويبدو هذا الاتجاه في كتابات ناقدات مؤثرات مثل أليس ووكر Alice walker (على سبيل المثال في إعادة
كتابتها لانعكاسات فيرجينيا وولف Virginia woolf المشهورة
حول مصير شكسبير لو أنه كان قد وُلِدَ امرأة في «جوديت شكسبير» Judith Shakespeare، أو في
كتابات تيلي أولسن Tillie Olsen المبكرة
عام1978. لقد انتقدت هؤلاء الكاتبات انتماء النظرية النسوية إلى الطبقة الوسطى
الأنجلو - أمريكية في افتراضاتها. ونتيجة لذلك، أصبحت تقاطعات العرقrace
والطبقة والنوع الاجتماعي
(gender) تتسم بأهمية متزايدة في خطاب التوجه النسوي.
إذن لم تقتصر المقاربات ما بعد - الاستعمارية على الباحثات من العالم غير الغربي،
وإنما كانت هناك باحثات أوروبيات رأين في بعض الانتماءات الأوروبية ما يشابه الانتماءات
الآسيوية والإفريقية إزاء الاستعمار الغربي. ومن هؤلاء الناقدات "آشيز
ناندي" و"واندا بلزانو" وغيرهما. فالأولى تؤكد تماهي تاريخ
الاستعمار مع تاريخ الأنثوية، في حين تؤكد الثانية التي درست الثقافة الإيرلندية
انطباق ذلك على صراع المرأة الإيرلندية لاكتشاف هويتها الأنثوية في صراعها «ليس مع
ما تمليه البطريركية فحسب، وإنما أيضًا ما يمليه وضع إيرلندا بوصفها آخرًا."
إن
الدراسات النسوية، استطاعت أن تفرض نفسها كمجال بحثي في الجامعات الأمريكية منذ أن
تطور مفهوم " النوع الاجتماعي"، كمفهوم مركزي استطاع أن يخرج من صلب
النضال الحركي للنسويات ويتبلور كما يصفه إريك فاسان، كأداة مفاهيمية لتحليل
السلطة، سواء السلطة الذكورية، أو سلطة النظام السياسي والاقتصادي. وقد انطلق هذا
المجال البحثي وتغلغل بشكل تدريجي في الشعب ومراكز البحث الجامعية في الولايات
المتحدة الأمريكية، لكي يلتقي بمفاهيم أخرى تسعى ليس فقط إلى فهم الهيمنة
الذكورية، بل توسيع التحليل لينفتح على أفاق أرحب. وهو ما قامت به الكاتبة غاياتري
سبيفاك، التي زاوجت بين النقدي النسوي والنقد الثقافي ما بعد الكولونيالي. ويصب
نقذها بالأساس حول " نزع الطابع الاستعماري الأبيض" عن خطاب الحركة
النسوية الغربية، التي لا يمكن التسليم برؤيتها دون إعادة نقدها ومراجعتها،
ومساءلة الادعاء الكوني الذي تسعى إلى فرضه.
" انتقدت
الناقدة الأمريكية من أصل هندي جيتري
سبيفاك، geatry chakravorty spivak، محاولات النسوية الغربية التحدث بالنيابة عن النساء خارج الفضاء
الغربي، وتأسفت كثيرا لأن تتم إعادة إنتاج المقولات الامبريالية من خلال النقد
النسوي، فقد تخطت الامبريالية والكتابة النسوية الغربية على حد سواء حدود
المسؤولية حينما انتدبتا أنفسهما للحديث بالنيابة ليس فقط عن المجتمعات التقليدية
والنساء فيها، إنما لفرض مفاهيم تحليلية، وإثارة قضايا دلالية متصلة بالفكر
الغربي، وتطبيقها بنوع من التعسف على مشكلات المجتمعات التقليدية ومنها قضية
المرأة. وأفادت من مفهوم التمثيل بالإنابة الذي اقترحه ماركس حول عدم قدرة
الشرقيين على تمثيل أنفسهم، من الضروري أن يمثلوا." (14)
تتقاسم
النساء مع الأعراق والشعوب المستعمرة خبرة سياسة القمع والاضطهاد كما كانت النساء،
مثلها مثل تلك الشعوب مجبرات على التعبير عن خبراتهن بلغة مضطهدين، وكان على
النساء مثلهن مثل شعوب ما بعد الكولونيالية بناء لغة وخاصة بهن في وقت كانت
الأدوات الوحيدة المتاحة هي أدوات المستعمر. (15)
وقد
انطلقت اجتهادات سبيفاك من نقد مزدوج، أولا تجاه ثقافتها الأصلية حيث يتم اضطهاد
النساء وتعذيبهن، من أجل تأبيد طقوس وممارسات ثقافية لا تتوافق مع واقع العالم
الحديث. واختارت مثال ما يسمى في الثقافة الهندية بطقس stay الذي
أثارت به بعدا مثيرا للجدل في موضوع المرأة بوصفها تابع من ويتمثل هذا الطقس في
حرق النساء لأنفسهن إثر موت أواجهن تعبيرا عن وفائهن. إن هذه الهيمنة في نظرها
تتخذ بعدا ثلاثيا هيمنة ذكورية وهيمنة أبوية وهيمنة استعمارية."
" ترى
أليسون م.جاغار في حديثها عن (عولمة الأخلاقيات النسوية) وفي تعليقها على صمت
التابع عند سبيفاك أنَّ تيمة الصوت والصمت وُجِدًت في نسوية القرن العشرين
الغربية، والآن توجد أدبيات نسوية مكثفة تحلل هيمنة النساء على الخطاب أو إقصائهن
منه. وإحدى المناقشات الكلاسيكية تتمثل في مقال غاياتري تشكرافورتي سبيفاك «هل
تستطيع الخانعة الحديث؟ Can
the subaltern speak، إذ تتناول المؤلفة بالتفصيل كيف أن نساء
العالم الثالث «الخانعات» يجري تمثيلهن في الخطاب بطرق تطمس ذاتيتهن فيما تدعم
مآرب مؤلفي النصوص. والمثال الذي تطرحه سبيفاك هو ممارسة «السُتي» أي طقس التضحية
بالأرامل الهنديات بإلقائهن في محارق جثث أزواجهن في أثناء الجنازة، ما جعلهن
يبدون أمام المستعمرين البريطانيين بوصفهن ضحايا يجب إنقاذهن من هذه المذبحة
الراجعة إلى «ممارسات متخلفة» في حين يراهن بعض الرجال بطلاتٍ مخلصاتٍ للتقاليد
الهندية"
تواجه
سبيفاك أيضا " خرس المرأة " في المجتمع ما بعد الاستعماري. وتدمج
الأساليب النسوية ومابعد البنيوية بالدراسات ما بعد الكولونيالية لتلفت الانتباه
إلى الذات الاستعمارية في " علاقتها بالمرأة التي من سكان البلد المقموعين
مرتين، فعند سبيفاك يتواطأ ساكن البلد في تشكيل الأخروية والبكم. فهي ترى أنه بفعل
سلطة الامبريالية البريطانية تحول سكان البلد وخاصة النساء إلى بكم." (16)
إذن
سبيفاك تعتبر نموذجا للنسوية غير الغربية، التي تنتقد الخطاب النسوي من الداخل
باعتبارها امرأة، ولكن تميزها عن نسويات الغرب، راجع إلى لعنة الأصل التي ظلت
تطاردها، فوجدت أن النسوية الغربية، تمارس هيمنتها ولو ظلت تنادي بإزالتها. فهي
تجسد الهيمنة الغربية البيضاء ذات النفس الاستعماري الخفي. يذكر بيل أشكروفت أن
«تقييم سبيفاك لخضوع النساء المستعمَرات المزدوج ومناقشتها عملية إسكات الموضوع
الوطني الخافت في شكل المرأة «التابعة» يشهد على واقع «غياب فضاء يتيح إمكانية
تحدث الذات التابعة (على أساس نوع الجنس). وضمنيًا يمتد إسكات المرأة التابعة
ليشمل جميع أنحاء العالم الكولونيالي كما يمتد ليشمل إخراس وإخفات أصوات جميع
المواطنين الذكور والإناث"
على سبيل الختم: في
خطورة النزعة العدمية
يتبين إذن من خلال ما سبق،أن
النقد ما بعد الحداثي، هو نقد متعدد الأبعاد. يسعى بشكل موحد نحو توجيه آلياته
التفكيكية والتحليلية نحو دراسة المنطلقات التي بنيت عليها الحداثة، التي يسميها
بعض "دعاة الأصالة" "غربية" والتي في حقيقتها ليست " لا
غربية ولا شرقية". لكن مكر التاريخ ونظرا لعدة عوامل جعلتها تنطلق من
«جغرافيا الغرب"، وتحولت عبر الاستعمار إلى كل أقطار العالم.
![]() |
المفكر الهندي الأمريكي هومي بهابها 1949- |
وقد كان القرن العشرين، وقبله
القرن التاسع عشر أوج الحداثة التي اقترنت في أذهان بلدان "الهامش" ب
«الاستعمار" و"الرأسمالية" وحاليا ب «العولمة". لذلك نشأت من
خلال التحولات العظمى في القرن العشرين، تيارات فكرية أخذت على عاتقها إعادة النظر
في سردية الحداثة وتراوحت تلك الردود بين الرفض أو الإصلاح أو التفكيك. وفي صلب
ورقتنا انطلقنا من فرضية أن الحداثة هي موجة كونية وأبدية وأن كل المحاولات
"المابعدية" لها، يجب أن تقف عند حدود تصويب أخطائها وإعادة صياغة
المفاهيم الناقصة فيها، وتقويض ثنائياتها المزمنة من قبيل : المركز والهامش،
والأبيض والأسود، والثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية والطبقة السائدة والطبقة
الأقل حظا وغيرها. وكل محاولة انقلابية ولو كانت خفية، فهي دفع في اتجاه
"العدمية" واللايقين والفوضى. لذلك فكل التيارات الفكرية هي أوراش فكرية
إصلاحية تفجرت من خلال السرديات الثورية الكبرى التي حاولت القضاء على منظومة
الأنوار ونقصد "السردية الماركسية" بالخصوص. ويعتبر النقد النسوي اليوم
نقدا جذريا، لأنه لا يتجه نحو الأنظمة السياسية والاقتصادية فقط، كما حاولت ذلك
الماركسية، بل إنه بالمقابل نقد جنيالوجي، يشتغل ثقافيا لأن مشكلة الحداثة اليوم
هي مشكلة ثقافية بالأساس، فمنذ النهضة الأوروبية إلى اليوم دائما كان السعي نحو
"توحيد العالم" ولم يتم ذلك بشكل فعلي(17) إلا بعد سقوط جدار برلين وانتصار خطاب
الحداثة. بمعنى «الليبرالية سياسيا والرأسمالية اقتصاديا وحقوق الإنسان قانونيا
والفردانية فلسفيا.". لكن على المستوى الثقافي مازالت الهوامش تناضل من أجل
أن يتم إدماجها في المنظومة ويتم الاعتراف بها وتأكيد هويتها (18) سواء
الجنسية أو الثقافية أو الجغرافية أو العرقية. ومن خلال الاجتهادات النظرية للحركة
النسوية تطورت نظريات اخترقت المجال الجامعي في الغرب وتشابكت مع اجتهادات نظرية
أخرى تتقاطع معها، اخترنا نموذج " دراسات ما بعد الاستعمار" ودراسة
التابع. التي يعتبر كل من الهندي هومي بهابها (1949) والفلسطيني إدوارد سعيد
(1935-2003) والهندية
غياتري سبيفاك ) 1942) وهم "الثالوث المقدس" في الدراسات ما بعد
الكولونيالية. وقد اخترنا نموذج سبيفاك من
بين هؤلاء الثلاثة، لأنها زاوجت في اجتهاداتها بين دراسة أوضاع النساء ودراسة
التبعية الثقافية. وبالتالي خلصت إلى أن الاضطهاد النسوي هو اضطهاد متعدد الأبعاد
لا يرتبط فقط بما هو جنسي بل يرتبط بالسياسي والتاريخي والثقافي ...الخ.
ورغم الأهمية النظرية لهذه
الدراسات إلا أن المشكل الذي تطرحه هذه الموجات الفكرية يتمثل في التمزق النفسي
لهؤلاء المنظرين، المتعددي الانتماءات والذين يظلون وفقا لذلك مشتتين بين عالم
الشرق هم رافضون له واقعيا، لأنهم لا يعيشون فيه، وفي المقابل هو يطمحون للاندماج
في الغرب أو حتى اكتساب مواقع متقدمة في
وسطهم الجامعي كما انتبه إلى ذلك عريف درليك
(19)، لكن يحسون بإقصائهم وتظل لعنة الشرق تتبعهم،
وهذا التمزق يتجلى حتى في كتاباتهم، لهذا نطرح التساؤل: هل هؤلاء يدافعون عن نظرة
الغرب للعالم، أم إنهم مازالوا مشدودين إلى النظرة الشرقية له؟ جوابهم هو المحدد
لموقفهم من العدمية الثقافية، فإن كانوا يفضلون الغرب فأكيد أنهم سيسلموا بتفوقه
وهيمنته، لأنه تفوق مستحق، وإن رفضوا كونية الغرب فهم يبررون نظريا "نزعات
الأصالة الثقافية" وهم بذلك متورطون معها بشكل غير مباشر. إذن السؤال الكبير
هو أي كونية نتولى أكونية الغرب أم كونية الشرق؟ وللأسف لا خيار ثالث. لأن الكونية
البديلة لم يبزغ نجمها بعد في أفق التاريخ؟
الهوامش:
1- توماس بريسون، انزياح
المركزية الغربية: نقد الحداثة لدى مثقفي مابعد الكولونيالية الصينيين والعرب
والهنود، ترجمة جان ماجد جبور،مؤسسة الفكر العربي، سلسلة حضارة واحدة،بيروت، 2019.
2- نفس المرجع، ص25
- 3الإشارة
إلى باتلر قلق في الجندر وفوكو.
- 4كمدرسة
فرانكفورت مثلا اضافة بعض أسماء الفلاسفة ما بعد
الماركسية
-5عبد الله العروي، مفهوم العقل،المركز الثقافي العربي،ط3،
2001، الدار البيضاء، ص 364.
6 - أنظر محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، توبقال، الدار
البيضاء، بدون تاريخ
-7 العروي الأيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي
العربي، الدار البيضاء،ط1،1995،ص 49-50.
8 - الصين تنتمي
إلى الغرب اقتصاديا مادامت دولة رأسمالية متطورة بعد أن اختارت الانفتاح
الاقتصادي، لكنها رافضة له سياسيا وثقافيا.
-9 مية الرحبي : النسوية مفاهيم وقضايا الرحبة للنشر
والتوزيع الطبعة الأولى 2014 دمشق سوريا، ص17
-
10المرجع السابق ص 32
-
11كيمبرلي ويليامز كرينشو” :
إلغاء الهامش، التقاطعية سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات ترجمة تامر
مواقي وحدة الإنتاج المعرفي باختيار د/ت الصفحة 05
12 - المرجع
السابق ص8
13
- ما بعد الكولونيالية: مفهومها، أعلامها،
أطروحاتها، مديحة عتيق، المجلة العربية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، الجزائر،
العدد 18.
-14ضياء عبد الله الخميس
الكعبي، سرديات مابعد النسوية في الكتابات النقدية مابعد الكولونيالية، جريدة
أخبار الخليج، البحرين العدد 13 يونيو 2015 اطلع عليه يوم 25 ماي 2020.
-15
المرجع نفسه
16
- نفس المرجع النسوية مابعد الكولونيالية
المرأة وسيكولوجيا الاستعمار في فكر فرانز فانون الثلاثاء 2019/10/01
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire