نضع الطرف الأول من
الجملة كالتالي، الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، ثم بعدها نقول:
مقابل استئنافه للعلاقات الدبلوماسية المعلقة منذ 23 أكتوبر 2000، حينما أغلق
المغرب مكتب الاتصال في الرباط ونفس الأمر في تل أبيب احتجاجا على القمع الذي تعرضت
له الانتفاضة الفلسطينية الثانية. إذن دعونا نحلل المسألة بكل تعقل لأن التناول
المتشنج والعاطفي رافق الحدث. لذلك فالمغرب تعامل مع هذه القضية بمنطق رابح رابح،
وهو أول درس لمن يريد الخوض في السياسة. ثم إن العلاقات كانت قائمة بالفعل بين
المغرب وإسرائيل كما هو الأمر بين إسرائيل وكل الدول العربية الأخرى وبالدرجة
الأولى تلك التي تدفع بالمشروع الإخواني الفاشل، ونقصد تركيا وقطر، الدولة الوحيدة
التي تعلن العداء لإسرائيل هي إيران، واللافت أنه رغم العداء الظاهري إلا أن هناك
تعاونا استخباراتيا وتعاونا في بعض القضايا أحيانا. هذا من جهة ومن جهة أخرى
فالمغرب مادام يتصرف بمنطق المصلحة التي تميز القرار السياسي للدول وليس بمنطق
العاطفة، إذن فلا أحد له الحق في لوم المملكة على قراراتها، ثم إن الشعب المغربي
قد قبل الأمر ولم يعترض على ذلك، حتى القيادات الإخوانية التي كانت تشحذ الشارع
بقضية فلسطين التزمت الصمت بل بدأت في تحضير المراسيم والإجراءات القانونية التي
ستواكب هذا القرار السيادي ما داموا في موقع المسؤولية في الحكومة وفي البرلمان،
اليسار غير موجود ومشتت ومبعثر، خرجت
مجموعة منهم للاحتجاج فتم تفريقهم في أقل من عشرة دقائق، العدل والإحسان صاحب
الطوباوية الخمينية في المغرب اكتفت بإصدار بلاغ يتيم، أما الجمعيات ذات الخلفية
اليسارية فبدورها أصدرت بضعة بيانات لا
ترقى إلى حجم وقوة الحدث التاريخي. لكن هذه
الأحداث الجزئية لما رافق هذا القرار، ومجرد الاكتفاء بتتبع الأخبار والتعليقات
الصحفية المتناثرة لا يعطي الصورة الكاملة لما يحدث.
المغرب والاتجاه العام للتاريخ:
إسرائيل استطاعت أن
تفرض نفسها بعد 72 سنة من الوجود على جميع الأصعدة والمستويات وكل دول العالم
تعترف بها، ولها معها علاقات ديبلوماسية عادية، العرب في وقت ما من تاريخهم جعلوا
القضية الفلسطينية قضيتهم، باسم العروبة تارة وباسم الإسلام تارة أخرى، فتجندوا
لاقتلاعهما ورميها في البحر، كذا ! لكن مع الوقت فرضت هذه
الدولة الفتية نفسها وهزمت العرب في 1967 هزيمة نكراء ساهمت في تشتتهم أكثر كما انهزموا سنة 1973 كذلك وقدموا تنازلات
ودفعتهم إسرائيل للتفاوض، لذلك لم ينجح هؤلاء القوميون المتعصبون في اقتلاع
إسرائيل كما كانوا يحلمون، لقد انتهت الأيديولوجية العروبية الاشتراكية التي كانوا
يتقاتلون من أجلها، والصراع كله كان مؤطرا بهذا الجو العام، أما محاربة إسرائيل
باسم الدين فهو كذلك مصيبة أخرى تنضاف للإيديولوجية القومجية التي باءت بالفشل رغم
أن الأيديولوجية الإسلاموية بشقيه السلفي والإخواني لم يكن لها نفس قوة
الإيديولوجيا العروبية الاشتراكية. المغرب أنذاك في ذلك الجو كان يغرد خارج سرب هذه الإيديولوجيات
الطوباوية باختياره الحوار مع إسرائيل خاصة بفتحه لعلاقات مع إسرائيل واستدعائه
لشيمون بيريز 1985 لزيارة المغرب، لكن ذلك القرار لم يعجب العساكر القومجيين
فتوحدوا للقضاء عليه لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، إذن المغرب ليس في موقف إحراج
من إرجاع علاقته مع دولة ديموقراطية هي إسرائيل مادام لم يكن يمني النفس في رمي
إسرائيل في البحر، ولا بتأسيس جمهورية قومية عروبية اشتراكية في المغرب، الحسن
الثاني كانت له رؤية سواء للمغرب أو للعالم العربي، وهو نفس الأمر للملك الحالي
محمد السادس، إذن الحركة العامة للتاريخ كلها تذهب في اتجاه المشروع الغربي بقيادة
أمريكا التي انتصرت بالفعل وتم القضاء على الإرهاب السوفياتي بسقوط جدار برلين،
لكن بعض بقايا اليسار الستاليني لم تفهم ما حدث، الجزائر مثلا اليوم مازالت أحقاد
الحرب الباردة تضرب بغشاوتها على عيون الجنرالات الذين يحكمونها، لهذا عدائهم
وحقدهم على المغرب، ودعمهم لجماعة انفصالية تحمل نفس الطوباوية بإقامة دويلة
عروبية اشتراكية على أرض أمازيغية.
الأهم كذلك في مسألة اعتراف الولايات المتحدة
الأمريكية بسيادة المغرب على صحرائه هو أن القرار أخذ الوقت الكافي لينضج،
وبالتالي تهاوي الإيديولوجية الانفصالية وتهافتها. وليس قرارا متسرعا اتخذ على عجل
كما هو الأمر مع الكثير من القرارات التي كانت متهورة وغير ناضجة وهي الاستراتيجية
التي تشتغل بها الدبلوماسية المغربية منذ أمد بعيد، فحتى استرجاع الأراضي
الصحراوية أخذ وقتا وتم استفتاء الأمم المتحدة حول المسألة ولما أثبتت أنه كانت
هناك روابط بيعة بين الصحراء و"الإمبراطورية الشريفة" عبر التاريخ، سارع
الملك الحسن الثاني لتنظيم المسيرة الخضراء التي تخلصت من الاستعمار الاسباني لتلك
الأراضي وبالتالي بداية الاعمار الحقيقي لهذه الجغرافيا.
في أصول نزاع الصحراء:
هذا النزاع المفتعل مازال قائما وشد الحبل هو بين المغرب من جهة والجزائر من جهة ثانية، فالمغرب بحكم الجغرافيا تعتبر الصحراء الأطلسية امتدادا طبيعيا له. عكس مثلا الأراضي الشائعة في الجارة الشرقية، التي كانت فرنسا وبحكم إيمانها بأنها صنعت دولة فرنسية في افريقيا، اقتطعت آلاف الهكتارات من المغرب غربا وتونس شرقيا ومالي جنوبا. أراضي شاسعة جدا. وقد فقد المغرب مثلا الكثير من أراضيه لأنه ناصر في البداية مقاومة المستعمر الفرنسي ورحب بالمجاهدين الجزائريين وعلى رأسهم الأمير عبد القادر، الذي لولا إصرار المغرب على مناصرته والترحيب به نصرة القضايا " المسلمين" ضد "الاستعمار الغاشم" لما تجرأت فرنسا على التحرش بالمغرب واقتطاف أجزاء واسعة من أراضيه في معاهدة لالا مغنية ثم استعماره فيما بعد وفتح شهية المستعمرين الآخرين لاحتلاله هي نتيجة القرار المغربي لمناصرة إخوته. ومن تلك الأراضي الصحراء الشرقية التي ترامت عليها فرنسا. ولما خرجت فرنسا من الجزائر وتغنت جبهة التحرير بانتصارها على الاستعمار لم تقم بالرجوع إلى حدودها الأصلية الموجودة قبل الاستعمار، لأنها في الظاهر تسب ملة الاستعمار وفي نفس الوقت ترفل في غِلته. هذا إن سلمنا جدلا بوجود دولة تسمى الجزائر قبل دخول فرنسا. لأنه والتاريخ هو من يؤكد ذلك لم تكن هناك دولة بهذا الاسم الاستعمار الفرنسي، لم يحتل الجزائر بل احتل أراضي الإمبراطورية العثمانية التي نصبت باياتها في الجزائر وتونس وليبيا. ولم تستطع تجاوز حدود الإمبراطورية المغربية. وهذه من الأزمات التاريخية المزمنة التي يعاني منها جنرالات جبهة التحرير الذين فقدوا كل المبررات لوجودهم في السلطة. لذلك بمنطق هؤلاء الذين يعتبرون قضية الصحراء المغربية "تصفية استعمار". لابد من إرجاع الأراضي التي اقتطفت من تونس ومالي والمغرب إلى أصحابها أولا قبل أن تتشدق بأسطوانة تصفية الاستعمار. وأن يتم إعادة رسم الخرائط من جديد. هذا من جهة ومن أخرى ومن خلال تحليل نفسي للاشعور السياسي لجنرالات الجزائر نجد هذه الأزمات النفسية تستوطن حيزا ضخما من لا وعيهم. وهو الأمر الذي يفسر سعارهم الشديد تجاه المغرب. وحول التاريخ دائما فإن الجزائر جنرالات وشعبا تحس بنوع من الحنين الرومانسي للملكية. بل إن هناك من يعتبر أن ملك المغرب يحكم رمزيا كلا البلدين ولا أدل على ذلك أن الكثير من السلالات الملكية التي حكمت المغرب. كان المغرب الأوسط وهو الاسم التاريخي للجزائر. تحت قيادتها مثل الأدارسة والمرابطين والموحدين. وكانت تلمسان مثلا مدينة تحت نفوذ الإمبراطورية المغربية.
إذن هذا القرار ليس
إلا خطوة صغيرة من النظرة التي تسير بها الدولة المغربية نحو مستقبلها، ومستقبل
المنطقة ومستقبل العالم. وذلك كله راجع بالأساس إلى عوامل أهمها موت الإيديولوجيا
التي قامت عليها الدولة الجزائرية الحديثة، ثم انتصار منطق المصالح الاقتصادية والتكتلات
الإقليمية على منطق الحروب والصراعات والتفرقة التي هي ديدن المتسلطين على رقاب
الجزائر، وأخيرا التاريخ يقول كلمته ولا ينتصر إلا المنطق السليم والواقعي، أما السعار
والغضب والأحقاد فتذهب جفاء.