منذ 2011 حينما خرجت جحافل المتظاهرين في كامل أنحاء سوريا، كان الأمر سهلا في البداية، لأن الفوضى عادة ما تكون سهلة، وتحركت الحرب الأهلية فيما بعد بين السوريين، وكان الصراع الأهلي ناتجا عن التقسيم الطائفي المزمن، الذي نشأ في سوريا وفي كامل مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. منذ زمن بعيد، وفي الفترة الإسلامية بعد دولة الأمويين في دمشق.
ونشأ عن هذا التقسيم الطائفي، الثقافي العرقي، تقسيما سياسيا،
نشأت عنه قوى عسكرية حاملة للسلاح، بين مجموعات عدة: مجموعة شيعية علوية متحالفة
مع النظام، ومجموعة إخوانية متشكلة في المدن الكبرى مدعومة من تركيا، ومجموعة
كردية في المناطق الشمالية والشرقية من سوريا حيث يتواجد الأكراد، الذين خضعوا
للكثير من الاضطهاد في ظل حكم آل الأسد وحزب البعث الطائفي العرقي، الذي فرض
ثنائية العروبة والاشتراكية.
ودخلت قوى دولية
خارجية لدعم هذه الفصائل المسلحة، إيران دعمت النظام والطائفة العلوية العربية،
وتركيا دعمت الإخوان المتمثلين في جبهة النصرة سابقا التي يهيمن عليها العنصر
العربي، والتي تحولت إلى هيئة تحرير الشام وهي التي أطاحت بالعاصمة دمشق يوم 8 دجنبر
2024، وبالتالي استولت على السلطة. فيما
دعمت الولايات المتحدة الأمريكية الأكراد في الشمال والشرق. وكانت هناك فصائل أخرى
مدعومة من طرف السعودية وقطر والإمارات.
أما روسيا بدورها فقد دعمت الأسد جويا، ولكن هدفها كان
استراتيجيا، لأنها كانت تريد الحصول على قواعد عسكرية في الشرق الأوسط لمجابهة
النفوذ الأمريكي، وهو ما حدث من خلال قاعدتي طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية.
واستمر هذا الصراع الدولي منذ 2011 إلى 2024 مدة 13 سنة
ونصف. لينتهي النظام في النهاية.
نهاية محور المقاومة:
سبق سقوط بشار الأسد الكثير من الأحداث، الممهدة، ومن
بينها، " طوفان الأقصى"، وهو مغامرة إخوانية من حماس بإشارة من إيران،
انتهت بدحر تنظيم حماس والدخول إلى غزة، مع ما رافق ذلك من عنف وقتل كبير والكثير
من القتلى والجرحى من الطرفين. لكن الضربات الأعنف من طرف إسرائيل التي كانت تعيش
وضعا داخليا متوترا، قرأته إيران وأدرعها بشكل خاطئ، هو القضاء على أهم القيادات
الممثلة لما يسمى بمحور المقاومة، والمقصود زعيم حماس " إسماعيل هنية"،
ثم بعد رأس حزب الله اللبناني " حسن نصر الله" ثم كذلك رئيس المكتب
السياسي لحماس في غزة يحيى السنوار، ثم محمد حسين سرور ثم فؤاد شكر، ثم إبراهيم عقيل
ثم علي كركي وإبراهيم قبيسي.
مع تقدم واضح لإسرائيل في غزة. ولم يبقى لها إلا شمال
غزة حيث تتمترس بقايا التنظيم المسلح.
هذه الهزائم شكلت، بداية نهاية المشروع التوسعي لإيران
في المنطقة. وساهمت في تراجع المغامرات الإيرانية. وكانت إسرائيل هي "الشيطان
الأصغر" الذي شحذت له الدولة الخمينية، كل سياساتها من أجل الإبقاء على
مشروعها، وهو في نظره امتداد " للشيطان الأكبر"، وهو أمريكا.
الذراع ما قبل الأخير للأخطبوط الإيراني:
كان القضاء على الذراع الإخواني لإيران وهو حماس، ثم
القضاء على الذراع الإيراني اللبناني وهو حزب الله. تمهيدا للانتقال إلى قطع رأس
الذراع العلوي السوري الذي يمثله بشار الأسد، وهو ما حدث بالفعل، ولكن هذه المرة،
وقعت تسويات بين إسرائيل والولايات المتحدة وتركيا التي لعبت دورا محوريا في هذا
الأمر. مع أخذ الإشارة من الأردن والإمارات ومصر. ولا نعرف هل حدثت تفاهمات مع
بوتين، الداعم الرئيس لبشار الأسد، ولكن انشغاله مع حدوده الجنوبية مع أوكرانيا،
لم يمنح له الفرصة، لإرسال طائراته من أجل حماية نظام البعث من السقوط.
وهكذا انطلقت فصائل هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع
الملقب بالجولاني، والذي كان متعاطفا مع القاعدة، قبل أن يقوم بمراجعات تنظيمية
وفكرية. وهو يأتمر بأوامر أنقرة، واستمرت المعارك، على أهم المناطق والمدن التي
كان يسيطر عليها النظام، ومنها، حلب التي استرجعها، ثم ريف إدلب، قبل الانقضاض على
العاصمة. وهروب بشار الأسد إلى موسكو.
الذراع الأخير: اليمن
ما سمي سابقا بمحور المقاومة قد انتهى إلى الأبد. ولم
يعد فيه إلا ذيل صغير يتحرك، كما يتحرك ذيل الحرباء المقطوع، وهو الفصيل الحوثي في
اليمن. ولكنه ليس بحجم قوة حزب الله أو حماس أو حتى حزب البعث الذي كان يحكم دولة.
لكن وهجه تراجع كثيرا، خاصة مع الضربات الصاروخية الأمريكية.
سوريا من التمرين العسكري إلى التمرين السياسي:
النزاع العسكري، دمر سوريا البعث تماما، بعد سقوطه دمرت
إسرائيل القوة العسكرية البعثية.
أصبحت سوريا الآن محررة عسكريا من البعث القومي العروبي،
الذي أجمع الكثيرون على دكتاتوريته وتسلطه. لكن هل نجحت سوريا بالفعل؟ الجواب ظاهر
سوريا لم تنجح لأن التمرين الآن الذي يجب أن يقوم به السوريون هو تمرين ديموقراطي
أساسا، تلعب فيه السياسية والحوار. الدور الأكبر. وما دمنا نتحدث عن السياسية،
فلابد من الحديث عن وجهات النظر. والأفكار المؤسسة للحراك. هناك تصورات كبرى في
سوريا وهي: سوريا سنية سلفية، وسوريا سنية إخوانية وسوريا قومية كردية وسوريا
درزية وسوريا مسيحية.
وسوريا شيعية علوية. لا يمكن لهذه الفسيفساء الطائفية
والعرقية والسياسية والعسكرية، أن تجتمع تحت راية جبهة النصرة أو هيئة تحرير
الشام، وحدها الديموقراطية قادرة على ذلك، وحدها دستور مدني علماني يستطيع ذلك.
وحده صوت الشعب، الذي تعرض للتنكيل، وكان البعض يدافع عن نظام البعث فقط من أجل
بقاء الدولة السورية، ليس حبا في بشار الأسد ولكن درءا لنهاية الجغرافيا السورية
ككيان سياسي مستقل. ومن هؤلاء مثلا بطبيعة الحال الولايات المتحدة الـأمريكية،
التي تغاضت عن إسقاط بشار الأسد، بعد أن فهمت أن سقوطه سيترك فراغا هائلا، قد
يتحول إلى ليبيا جديدة، وقد تبتلعه إيران فيصبح يمن جديد فاشل.
لكن لما نضجت الشروط الموضوعية والعسكرية على الأرض
انتهى بشار الأسد.
لما سقط بشار الأسد، كانت هناك مشاعر متضاربة، بين الفرح
لماض بعثي أسود، والتفاؤل، بغد مشرق أفضل، والخوف من مستقبل قاتم ومتشائم.
لذلك الآن على
السوريين أن يقوموا بتمرين ديموقراطي حقيقي.
أطروحة الشعب لا يستحق الديموقراطية:
كانت هناك أطروحة في بداية الحراك، كان يرددها النظام،
حتى بعض المحللين الأكثر نزاهة وحكمة، وهي أن شعوب الشرق الأوسط وشمال افريقيا،
بما فيها سوريا. لا تستحق الديموقراطية لأنها ليست مدربة على الحرية، فالحرية في
نظر هذه الشعوب إما انها فوضى ونهب لدى البعض، أو فساد وانحلال أخلاقي لدى أكثر
الأصوات قوة في المنطقة الثقافية لشمال افريقيا والشرق الأوسط. وكان ينظر إلى أن
نظاما دكتاتوريا ودمويا، يحفظ الأمن والاستقرار، أفضل عندهم من شعب منقسم ومتصارع
وطائفي.
الآن بعد سقوط رأس النظام، كما حدث مع زملاء بشار
القدامى ومنهم صدام والقذافي وصالح ومبارك وغيرهم. هل نجحت هذه الدول في تحقيق
تحولها الديموقراطي. الجواب هو بالسلب لأن الكثير من هذه الدول لم تحقق ذلك
التحول، وحتى إن استرجعت استقرارها، فذاك إما لقبضة سياسية حديدية من حديد، كما
حدث في مصر، أو محاصصة سياسية كما حدث في ليبيا والعراق. أو هيمنة فصيل على الحكم
كما حال اليمن. ماذا سيحدث لسوريا المنقسمة؟ الجواب بيد السوريين: الملاحظ أن أول خروج
للجماهير من أجل الاحتفال هو يوم الجمعة سميت ب "جمعة النصر". ثم أن
الشعارات التي رفعت في الكثير من التظاهرات في المدن الكبرى كحماة ودمشق. كلها لم
تخرج عن الشعارات التي رفعت في المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام قبل سقوطه يوم 8
دجنبر 2024. وفي بعض المظاهرات، تناول بعض الخطباء الكلمة، والقساوسة المسيحيين
واقفين، وشعارات كلهم دينية بالأساس لم تراعي هذا الاختلاف. هل سيتم إذن فهم، أن
كل الدماء التي أسيلت، كانت من أجل " تأسيس هذا الاختلاف" والاحتفال به
ودعمه.
هناك الكثير من
الأوراش تنتظر الدولة السورية الوليدة: أولا الورش السياسي، وهو الاتفاق السياسي
بين الأطراف المهيمنة على الأرض، الطرف السني
المهيمن، الذي تمثله هيئة تحرير الشام، والطرف الشيعي العلوي، الذي رغم
هروب الأسد، إلا أنه هو الميمن على كل المؤسسات والأجهزة والتفاصيل في الداخل
السوري، هذا الفصيل، هيمن على كافة المجالات، وهم يمثلون الأقلية المهيمنة ثقافيا
وسياسيا، وهم يشبهون النخب المتحالفة مع الاستعمار الفرنسي والإنجليزي، فرغم الاستقلال، لعبت هذه النخب المدينية دورا
بارزا في الدول التي نشأت بعد الاستقلال، ولم يمكن للدولة الوليدة أن تستـأصل هذه
العنصر والجدير بالذكر أنها تهمين على الاقتصاد كذلك ونحن نعرف أن الاقتصاد عصب
السياسة. ثم هنالك الطرف الثاني وهم الأكراد المسيطرون على الشمال والشرق وهي
مجموعة عرقية متجانسة ثقافيا وسياسيا، وتمثل قوة حقيقية في سوريا رغم تنكيل نظام
البعث العرقي القومي بها، وكل السوريين يدركون الاضطهاد الثقافي والسياسي الذي تعرض
له الأكراد. فاللغة والثقافة الكردية غير معترف بها في الجمهورية العروبية
الاشتراكية البائدة. والكل يعلم أن كل كردي سوري، يحمل اسمين، اسم رسمي موجود في
سجلات البعث، واسم كردي، ينادي به الكردي في بيته. وهذا مظهر بسيط من مظاهر
التمييز العرقي ضد الأكراد، وعلى الدولة السوربة الوليدة، أن يحس فيها الكردي بأنه
مواطن، وهناك الأقليات الدينية الأحرى، كالدروز والسريان والمسيحيين المارونيين،
الذين لم يخضعوا كانت أوضاعهم أفضل في ظل النظام البعثي، وعليهم اليوم ألا يتم اضطهادهم
من طرف دولة سنية أرثوذكسية كما تحمل لوائها هيئة تحرير الشام لذلك لا بد من اتفاق
سياسي. وبعدها يأتي التمرين الدستوري، الذي سيضع دستورا علمانيا مدنيا يحتفظ على فسيفساء
العرقيات والأديان في سوريا باعتبارها أقدم حضارات العالم. وهناك فرصة أن يكون هذا
الدستور نموذجيا، وأن تكون سوريا نموذجا لتدبير التوع الديني والثقافي في الشرق
الأوسط. أما غير وذلك، ستأتي أوقات يعود فيها الحنين إلى النظام البعثي. وهو ما لا
يتمناه أي مواطن حر متفائل.