vendredi 23 octobre 2020

مازاغان:الرافد البرتغالي في هويتنا الوطنية

 


مدينة الجديدة كما لقبت بعد تحريرها من طرف الأمير محمد بن عبد الله بعد أن أطلق عليها البرتغال، اسم "مازاغان "،مدينة مغربية مطلة على المحيط الأطلسي، تلقي برجليها في زرقة الأطلسي مزهوة بحليها التي تعبق برائحة التاريخ، تاريخ متعدد، بتعدد الهوية المغربية،  بالأمس بناها البرتغاليون كمحطة لهم بعد أن اصبحوا سادة البحار خلال القرن 16، بعدها ستتلاقح فيها مكونات الهوية المغربية، من دكالة، وهم قبائل أمازيغية تم تعريبها اللكنة الدكالية حاضرة في كل مكان، حينما تمر من أزقة الحي البرتغالي تختلط عليك الأصوات واللهجات خرجت من الفندق الذي نزلت فيه ، هذا الفندق ذو الزخارف المغربية البهية ،خطوط مرسومة على أبواب العرعار الصلبة، ونقوش الفسيفساء متعددة الألوان والأشكال، التي تزين الحائط و الجبص الملون الذي يزين السقوف، وسكون قاتل يعم المكان، سكون يمنحني الفرصة اللازمة للتفكير، للغرق في سوداويتي في تذوق الضجر، كتابي السوداويين سيكونون بنكهة خاصة في هذا المكان،سيوران وكافكا، وحتى نيتشه. غادرت غرفتي ونزلت إلى الشارع لأقوم بجولة في المدينة القديمة لأن المدينة القديمة هي المركز الذي تلتف حوله الأمكنة المستجدة، دخلت إلى أحد المحلات التي تبيع المأكولات الخفيفة، جلست أنتظر طلبيتي، فإذا برجل سبعيني يدخل الى المحل، وينطق ببعض الكلمات العبرية، فاتحا نقاشا مع أحد الجالسين، حيث تجادلا مليا حول اليهود، فالسبعيني يدافع بقوة عن اليهود، ويقول إنه يحبهم لأنه أكل طعامهم وجلس في مجالسهم واستمع الى أحاديثهم فهم شعب طيب، بل إنه الملك محمد الخامس حينما طلبت منه حكومة فيشي مده بقائمة اليهود المتواجدين في المغرب، قصد إعدامهم، أجابهم محمد الخامس، بأن في المغرب ليس هناك يهود، بل مغاربة. صاحب المحل  دو الأصول الجنوبية الأمازيغية بدوره دلى بدلوه في النقاش خاصة حينما أثيرت مسألة الأمازيغية واستفزه أحد الجالسين، حينما قال بأن الأمازيغ أو « الشلوح »كما سماهم قد استعمروا هذا الدرب، فدافع عن موقف قائل بأن الهوية المغربية أمازيغية، دفعوني إلى الحديث فقلت لهم، إن الهوية المغربية ليست واحدية، إنها هوية متعددة ضاربة بجدورها في التاريخ وكل من قال بالعكس فهو منغلق إقصائي، تركت المحل واخترقت الزقاق الضيق، أصوات ممتزجة، سباب، ضحكة، صياح، نغمة،…لا أميز بينها لأن أذني تستقبل تلك الأصوات، فتتلذذ بها، دون أن تحاول التمييز فيما بينها، بينما حتى الروائح تختلط، كل واحد منغمس في نشاطه اختلاط عجيب، هذا الذي يميز المدن المغربية، أسير وأتأمل المارة دخلت من إحدى البوابات إلى الحي البرتغالي وبدأت أتأمل البنيان الأوروبي المهيب، الذي يحمل جانبا من روح الحضارة الأوروبية، الناس هنا يبسطون ويضحكون. جلست على في أحد المقاهي المطلة على الزقاق، مقهى تقليدي، ينتصب بقرب السقالة التي بناها البرتغاليين. وجلست أتأمل العابرين، بشر من كل الأعراق والألوان يكتشفون المكان.

 

 

 

 

 

 

طوماس هوبز والثورة السورية

 


شكل القرن 17م نقطة تحول في تاريخ أوروبا وفي تاريخ الإنسانية عموما حيث تم الانتقال بالتدريج من قرون الظلام الوسطوية إلى عصور الحداثة هذه الأخيرة التي تظافرت مجموعة من العوامل في بلورتها وكشف جوهرها، أهمها: الاكتشافات الجغرافية والتقدم العلمي والاصلاحات الدينية. إنها بالتالي ملامح النهضة الأوروبية التي سيتم السير عليها. والتي لم تأت بطبيعة الحال في آن واحد لأنها كانت. عملية تاريخية تبلورت عناصرها وملامحها الكبرى شيئا فشيئا. وفي هذا السياق بالضبط شهدت المجتمعات الأوروبية تحولات جوهرية في المجال السياسي، وظهرت مجموعة من الاضطرابات السياسية والتحولات الجوهرية جعلت يراع الفلاسفة والمفكرين ينبض من أجل القبض على روح العصر وترجمة فلسفة توافق الآمال الشعبية وترسم الخطوط العريضة للحداثة الشاملة، خاصة السياسية منها. وفي هذا الإطار ظهرت النظريات السياسية التي تطورت في مجال الفكر السياسي،لتقترح بلورة تأسيس ميتافزيقي إن صح القول للدولة بمفهومها الحديث، كصيغة مثلى تعبر عن الاجتماع البشري. وقد بدأ الفلاسفة في بلورة تصورات تقترح النظام السياسي الملائم للشعوب، تتجاوز من خلاله أشكال المشروعية السياسية التي كانت تنهض عليها الدول،خاصة المشروعية الدينية التي كان الملوك يؤسسون عليها سلطاتهم باعتبارهم ظلال الآلهة على الأرض وحقهم المقدس في ممارسة السيادة على شعوبهم. لكن التحولات التاريخية التي ظلت مستمرة فرضت بلورة تصورات سياسية جديدة تؤسس للاجتماع البشري على أسس تتجاوز الأشكال القروسطوية القديمة وتعبر عن الراهنية التاريخية التي أصبحت شيئا فشيئا تتخلص من الحضور الإلهي، والعناية الإلهية حيث بدأت روح الحداثة تعطي للإنسان المركزية مقابل عالم الألوهية الذي أصبح مفارقا ومنفصلا عن العالم. وهذا ماظهر في فلسفة ديكارت باعتباره أب الحداثة بامتياز،حيث فصل الذات الإنسانية عن التأسيس الميتافزيقي اللاهوتي الذي كان سائدا في القرون الوسطى، وبوأته بالمقابل الصدارة والمركز باعتباره ذاتا مفكرة وبالتالي انكشاف عنيف للأنا مقابل تواري الآلهة وصعودها إلى السماء أو استقرارها في المجالات الخاصة، أي في قلوب المؤمنين بها. وهو مافرض على التفكير الفلسفي النظر إلى المجتمع على أساس جديد، عليه تتأسس السيادة ومشروعية السلطة. وفي هذا الإطار بالذات بدأت الفلسفة ترسم الوجه الجديد للمدنية الحديثة خاصة مع الثورات المتتالية، والصراعات الدينية الدموية، وظهور القوميات الأوروبية التي ستفرز "الدولة-الأمة " كمفهوم جديد داخله تتبلور الحياة الاجتماعية للشعوب، وبالتالي انهيار الإمبراطوريات القديمة وتشكل أوروبا الحديثة. إن الاجتماع السياسي باعتباره ضرورة وجودية، لا يتأسس إلا على تنظيم عقلاني محكم يستمد المشروعية من داخله لا من خارجه، هنا المحايثة باعتبارها المنطق الذي يسود، سواء في العلم أو الدين أو الفلسفة وحتى في المجال السياسي. وعليه فقد أصبح «العقد الاجتماعي» النظرية الأساس التي يجب أن تتأسس عليها مشروعية الدولة، وهي من مفرزات العقلنة والتحديث التي انخرطت فيها أروبا، لكن الوصول إلى تعاقد اجتماعي مكتمل كما نراه اليوم في الدول الديموقراطية،لم يكن ليتأسس دفعة واحدة،لكن جاء بالتدريج. لهذا نجد العقد الاجتماعي باعتباره أساس قيام الدولة الوطنية في أوروبا، كان في البداية يستوجب قيام سلطة الدولة على عقد واتفاق بين الحاكم والأفراد، مقابل توفير "الأمن والسلم ". لأنه في الأدبيات السياسية لا يمكن تدشين التقدم المجتمعي في ظل عدم الاستقرار وفي ظل انتشار العنف والاقتتال. تقوم الدولة لتوفر الأمن والسلم، عقد ذو بند وحيد، التنازل عن الحرية الطبيعية، التي تترجم القتل مقابل توفير السلم والأمن. وهو الطرح الفلسفي الذي بلوره الفيلسوف الانجليزي طوماس هوبز في كتابه الشهير "الليفيتان "، مؤسسا بذلك لأول تنظير في المجال السياسي ومدشنا لنظرية العقد الاجتماعي التي ستتطور بعد ذلك مع فلاسفة آخرين خاصة اسبينوزا وجون لوك وجون جاك روسو. إن حديثنا هنا سينصب على طوماس هوبز، نظرا لراهنية أطروحته فيما يتعلق بالظروف التاريخية التي يمر منها العالم الاسلامي اليوم،خاصة دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا على وجه التخصيص، التي تشهد ولادة تاريخ جديد. وبالنظر إلى بعض الدول التي تشهد دمارا شاملا وتشكل بؤرة تحول جيوبولوتيكي، اتضحت خيوطه الكاملة، بعدما خرج الفاعلون الذين كانوا يدبرون في الخفاء إلى العلن، لزعزعة الأوضاع في المنطقة باسم «الديموقراطية » و »حقوق الانسان » و "التغيير" الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط تفترض من الشعوب التي تعيش هذه المأساة أن تؤسس لرؤية ثاقبة تستقرأ وضعها التاريخي من أجل أن تبني أوطانها بإرادتها الحرة وتصنع قدرها التاريخي بكل وعي ومسؤولية إن ما تشهده سوريا اليوم يؤكد بالملموس أن الفرضية التي وضعناها في البداية صحيحة بشكل كبير، والتي ترى أن الفاعلين الحقيقيين وراء الحراك الشعبي السوري، وظفوا معاناة السوريين وغضبهم من أجل تخريب الدولة السورية، سعيا وراء مصالحهم الاقتصادية والسياسية والأمنية، لاحبا في سواد عيون السوريين و لابد هنا من التمييز بين النظام السياسي الحاكم، والذي نتفق جميعا على تسلطه و دكتاتوريته، وبين الدولة، كشكل من أشكال التنظيم العقلاني للمجتمع، لهذا فإننا إذ نؤكد على وجوب تحقيق الديموقراطية في سوريا،ديموقراطية حقيقية تتجاوز الشعارات التي جيش بها أعداء سوريا، السوريين على الدولة، نؤكد بالمقابل أنه لا يجب تخريب الدولة باعتبارها تجسيد مطلق لفكرة أخلاقية، كما قال بذلك فردريك هيجل إن أفضل حل لما يجري في سوريا من اقتتال، هو خلق تعاقد اجتماعي بين الدولة والشعب السوري. فمطلب السوريين هو عودة الأمن الى شوارعهم وأحياءهم، وعودة العائلات إلى بيوتها من أجل الحصول على قليل من الدفء، وتوقف حمام الدم الذي استمر لسنوات، كذلك توقف لعلعة الرصاص، ودوي الانفجارات المتتالية، وخروج جماعات الدم العابرة للحدود من تربة الشام الطاهرة. لهذا وجب التفكير بواقعية، والواقعية في نظري تقترض التنازل من كلا الطرفين، لعودة السلم، لهذا وجب على السوريين عقد مصالحة وطنية شاملة، وتطهير البلاد من جحافل الارهابيين، وضرورة التمييز بين الدولة كمؤسسات وبين النظام السياسي الحاكم. لهذا نتمنى أن تتبلور تصورات سياسية واضحة تستفيد من التاريخ وتتجاوز منطق الولاء والطائفية، وتستحضر الواقعية باعتبارها الجوهر الأساس في السياسة. لأن تعنت الأطراف لن يؤدي إلا إلى زيادة تأزيم الأوضاع والقضاء على ما تبقى من الدولة. إن السوريين شعب حباه الله بالغنى الحضاري والثقافي، وبلاد الشام هي مهد الحضارة الإنسانية، لكن تعنت النظام السياسي من جهة، وتكالب الدول العربية والقوى الدولية، جعل هذه الأرض الطيبة تسقى بالدماء لمدة تزيد عن ست سنوات، فمتى تنتهي المأساة، ويعود الاستقرار؟ لكن أكيد أن هذه التجربة التاريخية سيستفيد منها الشعب السوري وستنهض سوريا من جديد دولة ديموقراطية قوية.

المقال منشور بموقع رأي اليوم

 

 

 

 

 

 

 

الفرسان الثلاثة

 


العالم اليوم يعيش لحظة تاريخية صعبة، يكفي فقط قراءة التاريخ بعين الفيلسوف واستحضار منطقه، الذي يفجر الأحداث، وتلك الانفجارات التاريخية إن كانت أسبابها متعددة ومختلفة فإن من يكون السبب في تفجيرها في الغالب هو جنون العظمة.خلال هذه الألفية تقوت الرأسمالية فأصبحت وحشا يهدد وحدة العالم، بل إن الاقتصاد أصبح العصب الذي يحرك التاريخ الراهن. لذلك فإن السعي المحموم نحو السيطرة والنفوذ والهيمنة والتنافس غالبا ما يؤدي إلى اصطدام الإرادات التي تكون في الغالب قومية مجتمعية وثقافية أيضا. لكن لا يمكن رغم ذلك أن ننفي إرادة الأفراد الذاتية وهو ما يؤدي كما يقول هيجل بصناعة التاريخ ولكن وفق الشروط التي يريد هو. إنه مكر التاريخ!هذا المكر الهيجلي هو الذي يدفع الأشخاص نحو صناعة التاريخ. واليوم هناك ثلاثة فرسان، سيفجرون اللحظة الزمنية ويرفعون من وتيرة الأحداث. ليأخذ العالم شكلا جديدا أو ربما اختفاءه من الوجود، وبالتالي اختفاء هذه الإنسانية التي ما فتأت تدعي لنفسها الذكاء والتفوق بكل استعلاء وخيلاء. هؤلاء هم زعماء ثلاثة دول نووية ولابد من التسطير على كلمة نووية لأن ذلك هو ما سيعطي لكل انفجار للأوضاع بعدا أبوكالبتيكيا مهولا ما فتأ الفن والأدب يعلن عنه منذ مدة.الزعيم الأول هو زعيم أقوى بلد في العالم وقد جاء ليعيد ل «أمريكا عظمتها» وبالتالي فشعاره هو « أمريكا أولا » وهي دعوة قومية وطنية متطرفة تذكرنا بالدكتاتور الذي فجر عالم القرن 20 وهو أدولف هتلر. دونالد ترامب رجل الأعمال الذي دفعت به اللوبيات الرأسمالية، إلى اعتلاء عرش الولايات المتحدة الامريكية أقوى بلد في العالم. شكل فوزه صدمة لدى الكثيرين، لما تتميز به شخصيته من غطرسة وجنون عظمة وجشع، حيث شعاره المال والربح ولو كلف ذلك الأمن الدولي والأممي، إنه بتعبير مشيل أونفراي » رمز الرأسمالية المترهلة » ووجهها الأكثر تعبيرا عنها. وقد كان منذ حملته الانتخابية محط جدل دائم، خاصة أنه ضغط على وتر العنصرية، واستثار المشاعر القديمة لدى البيض ودافع بقوة عن المصالح التجارية لأصحاب الرساميل، ولم يكن قط وليد إيديولوجية واضحة المعالم، خاصة في زمن أعلن فيه البعض "موت الإيديولوجيا "، اللهم إيديولوجيا السوق الرأسمالية المتوحشة العابرة للقارات. وتعتبر سمة جنون العظمة أهم سمة تجعل منه فارسا قادرا على الدفع بالعالم نحو الكارثة.الزعيم الثاني هو وجه رأسمالي آخر، لكنه رجل سياسة بامتياز، لأنه ابن الاتحاد السوفياتي ووريث سرها وكعيد امجادها، والباحث عن عودة عظيمة للإمبراطورية البائدة. والتي في نظره لم تضع كما يتصور البعض. وبالتالي فلابد من إعادة تقسيم العالم ونزع السطوة والهيمنة ممن سطوا على الوجاهة والزعامة العالمية، وهو نفسه شخص مجنون ولكنه ذكي ومخادع وماكر في الآن نفسه. ربما لأنه ابن أخطر مخابرات العالم الكاجي بي. كما انه قادر على الدفع بالعالم نحو نهايته إن اقتضى المنطق القوة لنزع الاعتراف.المجنون الثالث هو أيضا وريث جمهورية ستالينية في آسيا، هذه الجمهورية التي عاشت مائة عام من العزلة، لذلك فقد وصلت بها الظروف إلى لحظة هذيان أو انفجار لأنها لا تحتمل المزيد من تلك العزلة القاتلة، لاسيما وأن جارتها في الجنوب التي اتجهت نحو المعسكر الغربي منذ البداية، تحقق تحت قدميها انجازات عظيمة وتحولت إلى قوة اقتصادية عالمية في ظرف وجيز، وهو ما شكل لها عقدة. لأنها ورغم افتخارها بأن القلعة المنيعة عن الرأسمالية، فإن ظروف العالم لم تعد تناسبها، لذلك فإنها قد تفجر هذا العالم وتفجر الأخضر واليابس، مادامت لا تستفيد من شيء وتريد أن تفرض نفسها على الساحة الدولية ولو برؤوس نووية عابرة للقارات ترسلها إلى البحر من حين لآخر، ليتحدث عنها العالم، ولتظهر له انها موجودة وتزهو بجنونها. ويقودها «زعيم خالد وملهم وقائد الشعب العظيم» وهو الشعار الذي يلقن لساكنيها في المدارس ومن لم يكرره يموت على الفور !وما يميز هذا الزعيم هو أنه ينتمي إلى طائفة المجانين وهو الفارس الثالث من فرسان العالم الثلاثة. آن هؤلاء الثلاثة هم أخطر ثلاثة مجانين اليوم، لأنهم يقودون دولا د واحدة في امريكا والأخرى في آسيا والاخيرة في أوروبا.هذه مجرد تأملات في وضعنا الراهن. والتاريخ وحده هو الحامل للجواب.هل نستمر أم نفنى؟

 

صدام الحضارات وأزمة العالم الإسلامي

 


خلال القرن19م، اتجه العالم الغربي أو الحضارة الغربية إلى التمدد والتوسع على حساب الثقافات الأخرى، وذلك راجع إلى حتمية هذا التوسع مادام أن فلسفة التاريخ تعلمنا، أن كل حضارة تحس بالقوة، إلا وتكون تبعات ذلك رغبة هذه الأخيرة في التمدد. وهو نفس المنطق الذي يحكم قوانين الفيزياء. وقد ظهرت على إثر ذلك النزعة الاستعمارية الغربية، وبدا العالم الغربي الأوروبي، الذي دشن الحداثة وأصبح راعيها بدأ في فرض قوته وإعلان نفسه كمحور، واعتبر باقي الثقافات هوامش وأطرافا. وقد انصاعت بعض الثقافات لهذه الهيمنة الغربية، بينما أخرى واجهت الاستعمار ورفضت الحداثة التي ظلت مرتبطة به، لأنها تمثل في نظرها تهديدا لكيان الثقافة، وأنا أستعمل هنا كلمة الثقافة بالمعنى الشاسع للكلمة والذي يمثل كل العناصر التي تدخل في تنظيم جماعة من الأفراد داخل تصور هوياتي معين وتفاديت استعمال كلمة حضارة، لأن هذا المفهوم يدل على مجال أوسع هو المجال الإنساني وبهذا المعنى فليست هناك سوى حضارة وحيدة هي الحضارة الإنسانية، في إطار تعدد الثقافات. وربما هذا هو الهاجس الذي وجه هذه الورقة منذ البداية. إن الدول التي كانت محط أطماع الغرب خضعت بالفعل للاستعمار، إما بدعوى رغبة هذه الدول في تحديث و نقل الحداثة الى الاخر  » المتخلف » و »البدائي »، أو بدعوى استغلال الخيرات التي تتوفر عليها هذه الدول، رغم أن هذا الهدف الأخير لم يتم الترويج له صراحة، بقدر الأول، وهو ما حدث بالفعل مع الحضارات القديمة، كحضارة الشرق الأوسط وشمال افريقيا،وآسيا حيث دخل المسلمون في مواجهة مباشرة مع الغرب، انطلاقا من رغبتهم في فرض ذواتهم ومواجهة الثقافة التي تهددهم،أما الثقافة الآسيوية فقد استوعبت الدرس منذ البداية ، وذلك من خلال انخراطها في الحداثة واستلهام جانبها التقني والعلمي، وبالموازاة الحفاظ على كيانها الثقافي والهووي،كما حدث مثلا مع اليابان التي دشنت، ثورة الميجي بداية النهضة الحقيقية فيها، اما الصين بدورها فلم تسلم من اختراق الحداثة لها، لكن في النهاية ستستوعب الدرس بدورها فتدخل في المنطق الكوني للحداثة في إطار الاحتفاظ بخصوصياتها الثقافية.لكن الحضارة الاسلامية لن تستوعب الدرس للآسف، لأنها انطلاقا من النظرة التي كونتها عن نفسها، لم تستطع الانسلاخ من التمركز حول الذات الذي استمر منذ الثورة المحمدية وظهور الإسلام، فرغم واقع التخلف الذي استمر منذ القرن 13 م. إلا أن المسلمين لم يستطيعوا استيعاب الدرس فظلوا يواجهون الثقافة الغربية، بدعوى الحفاظ على هويتهم، وإعادة الزعامة إليهم، لأن الله »اختارهم » أن يكونوا أسياد العالم، ولم يدخلوا بذلك في منطق الحداثة وآلياتها كما فعل غيرهم من الروس والصينيين واليابانيين، وهو الدرس الذي بدأت بعض الدول الاسلامية في شرق آسيا تستوعبه،كأندونيسيا وماليزيا وسنغفورة مثلا التي تشكل نموذجا للدول الإسلامية الرائدة.لكن مقابل ذلك فإن أوضاع مسلمي الشرق الأوسط وشمال افريقيا تنذر بمزيد من التخلف والتأزم. فهؤلاء لا يريدون أن يفهموا منطق التاريخ، وينخرطوا في الحداثة الكونية، فأصبحوا بذلك أشبه مايكون بدونكيشوته في صراعه مع الطواحين الهوائية، فهم يصارعون طواحين التاريخ والحداثة بسيوفهم الخشبية! لهذا نجد أن التأخر في فهم التاريخ والانتماء إلى العالم يحكم على مسلمي الشرق الأوسط وشمال افريقيا بمزيد من الانعزال والتأخر، تنتج عنه أزمات لعل أهمها الحروب والصراعات الطائفية والارهاب. لدى فقد حان الوقت للانخراط في الحداثة الكونية، لأنها قدر وليس اختيارا. والخروج من العزلة الكونية التي تزداد حدتها مع الوقت وتظهرنا للعالم كأننا مصاصو دماء وقتلة وارهابيين بدون استثناء، وأصبحت كلمة مسلم تترجم في مخيال سكان الأرض بالارهابي الدموي.

في مديح العزلة

إن الرجال الأقوياء هم الأكثر عزلة، هكذا قال الشاعر الأمريكي العظيم شارل بوكوفسكي، وهو قول فيه الكثير من الحكمة وتتفق حوله الكثير من العقول الجبارة. ولا أدل على ذلك من أن كل عظماء التاريخ إلا وكانوا أشخاص منعزلين، وليس المقصود هنا بالعزلة، العيش وحيدا في جزيرة وسط البحر كما فعل الحي بن يقظان، ولكن المقصود منها أن الذات يجب عليها ألا تنصهر كلية في الجماعة، وتذوب أصالتها فيها، فتصبح هي الكل ولا أحد. فالعزلة تعني تحقيق الذات لوجودها الأصيل، كما يقول هيدجر،أي وقوف الذات أمام مصيرها، وعدم نسيانها له، وبالتالي نسيانها للحظة الموت، إن العزلة تعلمنا أن نبقى في حضور دائم أمام مصيرنا وأمام سؤال الموت، إنها تعلمنا أن نتذكر باستمرار الأسئلة المصيرية والمحيرة. لهذا كل لحظة ابداع أصيل، لابد لها من لحظة عزلة عن العالم والأشخاص. والعودة إلى الذات واستكشافها والتأمل فيها، للحصول على الحقيقة الباطنية التي لا يمكنها أن تنكشف في الضجيج، ووسط الجماهير المغفلة، التي في كثير من الأحيان تنحاز كلية الى عقيدة القطيع، وتركن الى المشترك بين الجميع الجماهير لا تفكر،إنها تفضل العادي والبسيط.لهذا تعتبر العزلة طريقا نحو اكتشاف حقيقة الذات والعالم، فالمفكرين العظام و الفنانين،إلا وانعزلوا لحظة كتابتهم وابداعهم، فحينما أراد ديكارت ان يؤسس لميتافيزيقاه انعزل في الريف الألماني، ومارتن هيدجر كان له كوخ في توتنانوبرج ينعزل فيه، ونيتشه بدوره. وحتى الأنبياء قبل أن ينشروا رسالاتهم إلا وانعزلوا لمدة حتى تبينت لهم أهم الخيوط لأفكارهم ورؤاهم، فمحمد مثلا عاش عزلته الوجودية في غار حراء مدة من الزمان، فكان يبتعد عن جماعة قريش ليتأمل في الكون وفي الهواجس التي تعتمل في نفسه، إنه عاش أزمة وجودية، مرتبطة برفضه لعقائد البدو ورغبته في تجديد الفلسفة التي كانت سائدة في المجتمع، بعد ذلك سيؤسس محمد لإيديولوجيا التغيير التي توصل إليها بعد انعزاله هذا. كما أنه على مر التاريخ نجد تجارب كثيرة لنساك وزهاد ومتصوفين وملهمين كبار اتخذوا من فترات العزلة الطويلة أو القصيرة ملاذا لهم لصياغة تصوراتهم وفلسفاتهم، بل أحيانا انعزلوا كلية عن الآخرين، وهناك بعض التجارب الأخرى التي قام بها البعض من أجل الهروب من المجتمع المعاصر والمعقد، كما فعل مثلا الفيلسوف الأمريكي هنري ثورو الذي اعتزل المدينة وعاش في الغابة لمدة طويلة بدون مظاهر الحضارة المعاصرة وقد كتب بعدها كتابا حول تجربته هذه.وهناك من الأشخاص من يجدون راحتهم في الابتعاد عن الآخرين، ويبدعون أكثر وهم لوحدهم. وفي نظري ان الانعزال هو لحظة لتحقيق اصالة الذات، ولكن لا يجب فهم العزلة بمفهومهما المرضي، حيث لا يستطيع الفرد تحقيق مشاركة مع الآخرين والتواصل معهم، لكن العزلة المقصودة هنا هي العزلة بمفهومها الايجابي حيث يتم الاستقلال النسبي عن الجماعة، ويتحقق الفرد بشكل ميتافزيقي، لأن الفرد هو الأساس الذي تبنى عليه الحداثة بكل تجلياتها، السياسية، حيث يتم تأسيس المجتمع السياسي على أساس التعاقد بين الحاكم والمحكومين، والتعاقد في حاجة الى الارادة الفردية ليأسس، وكذلك المجتمعية، حيث تنتشر فكرة الحرية داخل المجتمع ويتمتع فيه الفرد بقدر كبير من استقلالية قرارته، وتجاوز منطق القبلية والأبوية والوصايا الدينية كما أن المجال الديني يصبح مجالا معلمنا، تتأسس فيه العلاقة بين الفرد الحر مع معتقده، وبذلك يتأسس الدين بمفهومه الفردي، ويتم تجاوز الدين الذي يمتد إلى حرية الفرد ويقوضها نحو دين فردي ومنفتح وكوني.


نحو إصلاح ديني للإسلام

 


إن إصلاح المجتمعات العربية لن يتأتى دون إصلاحات مهيكلة مرتبطة بمجموعة من القطاعات، ولعل أهم مجال لابد له من الإصلاح هو المجال الديني، فأشكال التدين الموجودة اليوم داخل هذه المجتمعات ليست شكلا ناجزا ومطلقا من التدين، بل هو رؤية أو مجموعة تصورات فقهية تبلورت في سياقات تاريخية واجتماعية معينة. لهذا نجد أن هناك اتجاهات وفرق وجماعات واتجاهات وفلسفات دينية. إن كل تغيير حقيقي، لا يأخد في عين الاعتبار هذا المعطى، لا يمكنه أن يحقق كبير نتائج، لأن الحل المناسب لتجاوز الانسداد التاريخي الذي تعانيه الحضارة العربية، التي انهارت منذ الزحف المغولي على بغداد وتدمير مكتباتها، وتبلور فكر فقهي متزمت بعد ذلك، والذي ترتكز عليه جماعات الإسلام السياسي، والجماعات الارهابية التي تضرب بقوة في جهات العالم الأربع. فالتغيير لن يتأتى مطلقا، باستلهام قيم الماضي المتخلفة، بل إنه مرتبط دوما بالسير والتقدم نحو الأمام،لهذا شاهدنا أن أروبا لم تكن لتحقق تقدمها، لولا الإصلاح الكبير الذي قام به الراهب الألماني مارتن لوثر، الذي جاء في فترة شهدت فيها الكنيسة الكاثوليكية في روما أزمة كبيرة وتوحشا بلغ حد بيع صكوك الغفران للأوروبيين البسطاء،و تأسيس محاكم التفتيش الجهنمية، التي كانت تتفنن في تعذيب وقتل كل فكر حر وجديد، لا يطابق التعاليم المتكلسة للرهبان والقساوسة ورجال الكنيسة، حيث أصبح الدين الذي ظهر مع المسيح كدين محبة ولطف، دينا عنيفا يقتل ويعنف، لأنه اختلط بما هو سياسي ودنيوي، فانصرف رجال الدين عن الغايات الكبرى والسامية للدين وهي تحرير الإنسان وإعطاء المعنى الوجودي، انصرفوا إلى كسب المال ومحاربة كل تجديد وتفكير، فكان الإصلاح بذلك في أعظم ثورة ستشهدها الكنيسة،حيث سينقسم المسيحيون إلى كاثوليك وبروتستانت.إن الإصلاح الديني إذن، لحظة أساسية يجب أخذها بعين الاعتبار في عملية بناء المجتمع والدولة الحديثة في مجتمعاتنا،لأن كل إصلاح لابد له أن يرتبط بإصلاح العقل أولا، والعقل الاسلامي، دخل مرحلة أزمة عميقة، أصابت مقولاته الأساسية التي لم تعد تناسب الظرفية التاريخية التي يمر منها العالم. والنتيجة هي ظهور الجماعات التكفيرية الارهابية مثل طالبان والقاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرها من جماعات الدم الجهنمية، التي تستند في أيديولوجيتها السوداء المتطرفة، إلى تراث عتيق من المقولات الفقهية التي صيغت خلال القرون الماضية، فتم البناء عليها، وتبنتها هذه الجماعات كذا جماعات الاسلام السياسي، وأرادت اسقاطها بشكل ميكانيكي على واقع المجتمعات العربية الاسلامية الحالي، دون تجديد ولا عصرنة ولا اجتهاد. فنجد أن ابن تيمية وابن حنبل أهم عندنا من ديكارت وروسو. حتى أن بعض الأنظمة السياسية تأسست على هذا الفقه، مثل السعودية التي اتخذت من أشد أنواع الايديولوجيات الدينية، عقيدتها وأساسها،لدى نجد الوهابية السلفية، هي عقيدة آل سعود، حيث تطبق فقه ابن حنبل وابن تيمية، من سرق في السعودية، تقطع يده، من زنى يجلد أو يرجم، من نظم قصيدة هجاء في أولي الأمر، أي عائلة آل سعود يقطع رأيه، وغيرها من مختلف انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارس في حق المواطنين.ونفس الطرح نجده عند القطب الآخر من الفقه الاسلامي، في ايران،التي تستلهم التراث الاسلامي الشيعي. ونقطة الاختلاف الوحيدة بين كلا النظامين، الوهابي والشيعي أن الأخير جاء إثر ثورة دينية قام بها رجال الدين بقيادة الخميني على نظام الشاه الذي قام بإصلاحات جدرية لإيران، فبنيت ايران الشيعية، على تلك الاصلاحات، لتصبح بذلك قوة اقليمية، تبحث لها عن مجال لفرض قوتها، لكن مساعيها ستصطدم مع الدولة الوهابية التي تأسست بناء على فقه وهابي وفي تزكية من الولايات المتحدة، وما يحدث في إيران والعراق وسوريا ليس سوى الساحة التي يتجلى فيها هذا الصراع، الذي سينتهي حتما باصطدام أعنف سيكشفه لنا التاريخ في المستقبل.إن هذا الصراع الديني، نجد له امتدادا في التاريخ، ويعبر عن أزمة عقيمة يمر منها المسلمون، وهي أزمة دينية بالأساس، قبل أن تكون سياسية أو اجتماعية، لأن الدين مازال يشكل عنصرا مهما في الثقافة الاسلامية، والحل الجذري لهذه الأزمة هو الثورة على الفهم القديم للإسلام، وذلك من خلال إخضاع هذا الأخير للإصلاح. لأن الاصلاح الديني مقدمة أساسية لكل اصلاح، مادام الدين يحجب فردية الانسان وحريته، فكل اصلاح سياسي لا يرتبط بفكرة الحرية ليس بالإصلاح الحقيقي، ولا أدل على ذلك ما شهده العالم العربي، فيما يعرف ب »ثورات الربيع الديموقراطي »،التي انطلقت من المساجد، فنجحت في اسقاط الأنظمة، لكنها لم تنجح في اسقاط العقليات المتخلفة، والسبب في ذلك هو غياب إطار مرجعي يؤطر هذا الاصلاح، فلا تغيير حقيقي دون إصلاح ثقافي عميق وجذري لهذا كان لزاما اصلاح ديني، يتجاوز الفقه الاسلامي،سواء الشيعي أو السني المتكلس، من أجل تجاوز الانسداد التاريخي، وابراز فاعلية الإنسان وحريته. وبالتالي تأسيس مجتمع مدني تسوده الحرية والقوانين، والخروج من ابستمي القرون الوسطى بدون رجعة حيث نتجاوز سيادة الله، من أجل سيادة الإنسان، ونتجاوز حكم الحاكم باسم الإله، إلى حكم مدني تعاقدي ديموقراطي.

الموسيقى روح العالم

 

Portrait de Giuseppe Verdi
à l'écharpe blanche et haut-de-forme

لا يمكن للإنسان بمفهومه النتشوي، اي الانسان الذي يتجاوز انسانيته، أن يعيش ككائن بيولوجي فقط يلبي حاجاته العضوية بدون أن يلتفت إلى تكوين جوهره باعتباره كائنا يسمو بوجوده إلى مستوى آخر يتحقق كذات. لهذا صدق القول « ليس بالخبز فقط يعيش الانسان » فروح الفرد لابد أن تتغدى كما يتغدى جسده، وغداء الروح في نظري هو الفن، فالفن فيه يتحقق المطلق، وتنجلي العبقرية، كما يصف ذلك شوبنهاور في كتابه « العالم ارادة وتمثلا » فإرادة الحياة لا يمكن تجاوزها والتغلب عليها في نظر شوبنهور إلا عن طريق، مجالات تتنصل من قبضة إرادة الحياة العمياء، ومن بين هذه المجالات الموسيقى، فهي روح العالم، وهي لحظة تنصهر فيها الذات الانسانية لتسمو بروحها إلى مراتب المطلق بمفهومه الفلسفي ويعتبر العزف واللحن مظهرا من تمظهرات العبقرية والفنون كلها تحقق هذه الغاية. لكن تظل الموسيقى، لغة العالم التي توحد، لأن فيها عنصرا يمكنه أن يخترق أي نفس بشرية مرهفة، فكل البشر أينما وجدوا، يحسون ويشعرون، ويتوفرون على عاطفة ولغة العاطفة الأكثر نفادا الى جوهرها هي الموسيقى، وليس هنا الموسيقى بمفهومها الشعبي، بل العبقرية الموسيقية، كما برزت مع العمالقة الكبار، أمثال بيتهوفن وموزارت وتشايكوفسكي وفردي وفاجنر وفيفالدي …وغيرهم ممن أبدعوا معزوفات ستظل خالدة. لأن فيها عنصرا أصيلا لا يمكن للتاريخ أن يتجاوزه، فهذه المعزوفات التي تنتمي الى القرن 18 والقرن 19م مازالت تأسر قلوب المستمعين، لأن فيها من الأصالة والعظمة ما يجعلها متجددة باستمرار ، ولابد للمتلقي هنا أن يتوفر على قدر معين من فن الاصغاء، وأن يمتلك روحا تحسن الإصغاء لا روحا تألف السفاسف من الأمور، الروح الملوثة بالعبث وثقافة الرعاع الوضيعة والضعيفة لا يمكن أن تكتشف عبقرية الموسيقى العالمية، فكم من جاهل قد يعتبر موسيقى فيردي، مملة ومزمجرة لا تحسسه بشيء، لكن صاحب الروح المرهفة والإحساس الراقي سينظر إلى هذه الموسيقى على أنها قطعة من العالم، ونفسا من أنفاس الآلهة، لكن المجتمعات المتخلفة ومن بينها المجتمعات العربية الاسلامية، تعاني من صعوبة كبيرة في تقبل الموسيقى خصوصا والفنون عموما، فهي مازالت تستند الى نظرة الفقهاء الذين حرموا الموسيقى، واعتبروها »مزمارا من مزامير الشيطان » لأن العقل الديني المتزمت، دائما، ما ينظر إلى كل ما هو جميل على أنه تعبير عن أمور محرمة، لأن الفكر الذي يقدس ثقافة الموت، ويقدس ما بعد القبور، كيف له في نظري،أن ينظر نظرة استحسان الى كل ما هو جميل؟ لهذا السبب كثيرا ما نجد بعض التأويلات الرجعية الظلامية، التي تعتبر النغمة، واللون، والطرب…لهوا ولغوا وانصياعا للشيطان. ويكفينا هنا أن نتأمل في تراثنا لنجد أن أهم فترة في تاريخ الحضارة العربية الاسلامية، كانت خلال العصر العباسي، ومعلوم أن العباسيين شجعوا الفنون والفلسفة والعلوم والآداب، فظهور الفن في حضارة معينة، تعبير جلي عن ازدهارها وتطورها، وغياب الفن والفكر والآداب دليل على الأزمة والتخلف. فمجالس الخلفاء العباسيين كانت مجالس خمر ورقص وشعر وموسيقى، لأنهم لم يولوا مسائل العقيدة المتحجرة اهتماما كبيرا، بل بالعكس قد حاربوا هذه النظرة، ولا أدل على ذلك تبنيهم للفقه المعتزلي، الذي يعتبر العقل جوهرا أساسيا في فكرهم،و قمعهم للفكر الحنبلي المتزمت والتكفيري الذي سيسود بعدهم حينما ستنهار حضارتهم في بغداد.إن النهضة الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، كان من أهم تمظهراتها ظهور الفنون من رسم وموسيقى وهندسة وقد كان في البداية مرتبطا بالكنيسة التي قامت بتوظيفه فيما هو طقوسي، فقد دخل الفنانون العظام إلى الكنيسة ورسموا فيها الأجساد العارية للقديسين والآلهة والأنبياء، كلوحة خلق آدم التي رسمها رافاييل في كنيسة سيكستين،كما دخلت الموسيقى كذلك في طقوس العبادة إذ أصبحت القداسات تقام، على إيقاعات موسيقية، كما هناك بعض الموسيقيين الكبار اشتغلوا في الكنيسة كفيفالدي مثلا.إن الفن لم يدخل في صراع مع الدين، بل إنه تسلل إلى مقولاته، فقوض الديانة الظلامية، وخلق دينا تنويريا يؤمن بالفن، فمن خلال الفنون التشكيلية، تصالحت أوروبا مع الجسد، الذي لم يعد مرعبا ومخيفا، بل إن الجسد أصبح أول من تحرر. في موازاة مع تحرر الفكر بطبيعة الحال. كما أن الموسيقى، منحت الروح استقلاليتها، ولم تعد الفنون، تجليا للشيطان، بل شهد الدين وفق هذه التحولات، انقلابا ناعما فمثلا حينما انتهى رافاييل من لوحة خلق آدم، عرضها على البابا، وحينما رآها البابا، صفع رافاييل، وصفعة البابا، شكلت اندهاشه ورهبته في آن واحد. وهو فعلا ما وقع مع توالي الأحداث، حيث جاء الاصلاح الديني مع مارتن لوثر وتم بعدها إعادة النظر في مجموعة من المقولات الدينية التقليدية، وانطلق التنوير الذي سينتصر في الأخير على الظلامية، وسينفصل الدين في نهاية المطاف بعد صراع طويل بينه وبين الفكر والفنون.وبعودتنا إلى سياق الحضارة العربية الاسلامية، نجد أننا مازلنا نعيش زمانيا في القرون الوسطى، فمعابدنا يحرم الرسم فيها، ومازلنا لم نتحرر بعد من رهاب الجسد، ومازال الكثير ينظر الى الفن نظرة التحريم ويعتبره فسقا وفجورا، لذلك اعتبرت دائما أن مواجهة الظلامية لا يتحقق بالفكر وحده، بل إن الفنان والرسام والموسيقي والمسرحي والأديب لابد أن يشكلوا جبهة موحدة ضد الثقافة الظلامية، ولازم كل اللزوم أن نؤسس لدولة الحرية، ووسيلتنا في ذلك، الكلمة والنغمة واللحن وضربة الفرشاة يجب لهذه الغاية أن تنتشر الفنون خاصة الموسيقى وتعزف في الشوارع، ولابد أن تشيد المنحوتات والتماثيل في شوارعنا، ولابد أن ترسم اللوحات في مساجدنا وأن تتطور طقوس العبادة، لم لاندخل الموسيقى الى المساجد ، ونرسم على جدرانها، ونقضي بدون رجعة على الظلام الذي يسود عالمنا؟ ونؤسس للمجتمع الذي نحلم به جميعا وهو مجتمع الحرية والكرامة وسيادة الانسان.فيا أيها الفنانون أبدعوا، وارسموا، وخططوا، وانحتوا…لأن التغيير بيدكم.

 

 

jeudi 22 octobre 2020

النقد الفلسفي والنقد الايديولوجي

 


إن الاشتغال بمسائل الفكر، وسلك دروبه الوعرة، والتخصص في الافكار المجردة، يؤدي حتما الى ممارسة النقد، لأنه لا وجود لفكر دون نقد فالنقد بداية الفكر ومنتهاه. وقد عرف التاريخ الانساني انماطا متعددة من التفكير واكبت تطوره وتقدمه في التاريخ، منذ ان كان مجرد كائن حي، الى ان أصبح بفضل التطور البيولوجي كائنا عارفاhomo sapiens ثم بعدها كائنا يعرف انه يعرفhomo sapiens. وقد بدا التفكير الانساني بسيطا جدا، حيث كان يعتمد السحر والخرافة لتفسير ظواهر الكون. لكن شيئا فشيئا، سيتطور تفكير البشر خاصة حينما تم اختراع الرمز الذي شكل في نظر ارنست كاسيرر ماهية الكائن الإنساني، وذلك من خلال اختراع الكتابة، في الحضارة السومرية القديمة، وفور ذلك سيبدأ التاريخ، منذ 3500 ق،م. وسيعتبر ما قبله عصور ما قبل التاريخ، وباختراع الكتابة سيتقدم الانسان خطوة جد هامة في تاريخه، حيث سيتحول الخطاب الى خطاب مكتوب، يوفر بيئة حاضنة للفكر المركب والمجرد الذي يتم التعبير عنه بالرموز، وهو ما حدث مثلا في الحضارة اليونانية خلال القرن 6ق،م. حيث ستتشكل لأول مرة في التاريخ، نظرة مغايرة للنظرة الأسطورية، وسيقام فهم جديد للعالم مبني على اللوغوس، يتجاوز كل التفسيرات المافوقية التي كان البشر يفسرون بها الظواهر فكانت بداية الفلسفة العظيمة مع فلاسفة ملطية الكبار، الذين حاولوا الاجابة عن سؤال الوجود بطرق تعتمد العقل والتفسير المنطقي. ان هذه البداية شكلت مرحلة جديدة ستتطور بشكل مطرد، رغم بروز نمط فكري آخر، لا يوظف العقل بقدر توظيفه للعواطف والايمان، والمقصود هنا الخطاب الديني، الذي شكل نمطا تختلط فيه النظرة السحرية بالنظرة الاسطورية للعالم، ويتوخى حجب الأسئلة المؤرقة والاجابة عنها وطي الصفحة، وهي أسئلة المصير الإنساني. الدين سيدخل في صراع مع الفلسفة خلال القرون الوسطى لكنه لم يستطع القضاء عليها فوظفها لصالحه، من أجل نزع الطابع المنطقي على بعض منطوقاته، لكن في الأخير سيتوارى الدين عن الساحة العمومية، بعد المعركة الشرسة التي خاضتها الشعوب ضده، خلال عصور التنوير المجيدة، كما أن الخطاب الديني ستتهافت مقولاته أمام الخطاب العلمي، الذي انفصل عن الفلسفة خلال القرنين 16و 17م. اذ تم تخريب النظرة الأسطورية التي دافع عنها الدين، وقتل من أجلها ونكل، وهي القائمة على النظرة المغلقة للكون، المستندة لنظرية بطليموس الفلكية القائلة، بسطحية الأرض وبدوران الشمس حولها. هذا التصور سيزول في العصور الحديثة مع نظرية كوبرنيك. وسيصاب الانسان بجرج نرجسي غائر حيث أصبح مجرد نقطة تافهة في كون شاسع. والعلم هو نمط التفكير الذي يفسر العالم استنادا إلى النظرية والتجربة، كما يقوم بتكميم الطبيعة وتحويلها، ليوفر للإنسان التحكم فيها، والتحول من عبد لها الى سيد عليها، كما دعا إلى ذلك ديكارت خلال القرن السادس عشر. والمعروف ان وجود الانسان محكوم بمجموعة من المحددات، أهمها أنه كائن اجتماعي بطبعه، لا يمكنه أن يعيش بمعزل عن الآخرين، وبالتالي ظهرت أشكال متعددة من التضامن بين الأفراد، ويقسم عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم، أنواع التضامن بين الجماعة إلى تضامن آلي ميكانيمي وآخر تضامن عضوي. وهو الفارق بين المجتمعات البدائية والمجتمعات الحديثة. ومن أجل تنظيم الجماعة لابد من توزيع للسلطة بطريقة تضمن استمرارية الجماعة، وعدم تفتتها أو زوالها، لهذا كانت السياسة هي الطريق الأنجع لممارسة السلطة هذا الموضوع الذي شغل حيزا هاما من الفكر الفلسفي خلال القرن العشرين. فالسياسة لا يجب النظر إليها، كجهاز أو سلطة مادية، لكنها أقرب إلى ما يسميه مشيل فوكو بميكروفيزياء وماكوفيزياء السلطة، أي أنها تتخد مظهرين أساسيين، والمظهر الخفي أشمل من المظهر الجلي، لهذا كانت السلطة دائما في حاجة إلى خطاب يشرعن وجودها،وهو الخطاب الايديولوجي، الذي أسال الكثير من مداد المفكرين والفلاسفة منذ ماركس، الذي كتب كتابا سماه بالإيديولوجية الالمانية، والذي دعا فيه الى فضح المستغلين في البنى الاقتصادية الرأسمالية، التي تستغل الأفراد وتزيف وعيهم بأفكار لا صلة لها بالقوانين الاقتصادية المادية، التي تحرك التاريخ. لهذا كثر الخطاب في القرنين 19م و20م حول الايديولوجيا. ووقع سوء فهم كبير لها. لكن هي في أبسط تعريف لها نظرة للعالم. تستند الى الفكر وتمارس في السياسة. فالإيديولوجيا بهذا المعنى فكر يتوخى تغيير الواقع أو تشويهه أو تبريره وهي الوظائف التي حددها لها بول ريكور.إذن لا يجب في نظري اعتبار الايديولوجيا شيئا سلبيا يجب تجاوزه، لأن ذلك غير ممكن عمليا، مادامت العلاقات الاجتماعية مبنية على السلطة التي تعتبر الايديولوجيا، جزءا كبيرا من خطابها. لكن السؤال الذي يؤرق بالي هو حول علاقة الخطاب الفلسفي بالخطاب الايديولوجي، وهي الاشكالية التي شهدت نقاشا واسعا من طرف المفكرين لكن وجهة النظر التي اعتقدها هي أن الخطاب الفلسفي خطاب غاية في ذاته، لا يتوخى الوصول إلى غاية أخرى تجعلها وسيلة. لهذا كانت الفلسفة دائما حينما تريد أن تعرف ذاتها، تجد عدم سوء فهم كبير من لدن المتلقي، الذي يبحث دائما عن الغاية، وهو ما لا تستطيع الفلسفة الاجابة عنه بسطحية، لأن الفلسفة هي غاية ذاتها، وهي البحث عن الحقيقة المطلقة والاجابة عن الأصل الأكثر عمومية، لهذا نجد كثيرا من الفلاسفة الماركسيين يميزون بين « الفلسفة المادية » و »الفلسفة البورجوازية » فكل فلسفة في نظرهم لا تلبس لبوس الايديولوجيا المادية ولا تفضح الايديولوجيا البورجوازية ليست بفلسفة، وشعارهم في ذلك هو أن وظيفة الفلسفة هي « تغيير العالم وليس فهمه » وهي الجملة الشهيرة لماركس.لكن إن تم اعتبار الفلسفة بهذا المنطق ستظل مجرد وسيلة، من أجل غاية وهي تغيير العالم. لكن السؤال المطروح هو: كيف يمكن تغيير العالم بدون فهمه؟ فالفهم الشامل للعالم يمنح فرصة أكبر وأعظم من أجل تغييره. لهذا كان دائما هناك صراع بين الخطاب الايديولوجي والخطاب الفلسفي، ولا ينبغي أن نفهم هذا الصراع بالمعنى الذي نفهم به صراع الفلسفة والدين. فالدين يدعي لنفسه الحقيقة مادام يتجاوز عالم الانسان نحو عالم ماورائي هو عالم «الحقيقة المطلقة»، لكن الايديولوجيا، هي خطاب يستند الى فهم الواقع الموضوعي، لكن رغم ذلك لابد من الاشارة إلى أن الايديولوجيا تستند احيانا إلى الدين، فتكون بذلك ايديولوجيا دينية، كحركات الاسلام السياسي مثلا، التي ليست دينا، بل ايديولوجيا، لأنها تتوخى التأثير في الواقع وتمارس السياسة استنادا إلى الدين. كما أن الايديولوجيا قد تستند الى الفلسفة، خاصة في النزعات المذهبية، فالماركسية هي ايديولوجيا، تستند الى الفلسفة المادية. كما ان الايديولوجيا قد تستند الى العلم كما يتحدث عن ذلك يورغز هابرماس في كتابه، العلم والتقنية كإيديولوجيا.لكن المشتغل بالفلسفة لا يجب في نظري، أن يظل حبيس أفكاره المجردة، ولا أن يظل مكتوف الأيدي في علاقته بالواقع الاجتماعي والتاريخي والسياسي الذي يعيش فيه، لهذا كان لزاما أن ينخرط في حركة التاريخ، فكرا وممارسة، وهي الدعوة التي دعت اليها فلسفة البراكسيس الماركسية،اذ يجب الانخراط في التاريخ وفضح الاكاذيب ونزع السحر عن العالم، ووضع الفرد تجاه مصيره، ونشر الوعي وتشجيع الافق الرحب، ومواجهة كل نزعات الشر التي تملأ العالم، لكي يتحقق الدور التاريخي للمثقف بمفهومه الغرامشي. لهذا لابد من التأكيد في الاخير على أن انواع الخطابات لا تنفصل كلية، ولكن نجد امتدادات بعضها في البعض الاخر، لهذا فان الاشتغال بالفكر يظل مسؤولية جسيمة يجب على من يصنف نفسه داخلها، أن يتحملها وان يذهب بنفسه الى أقصاها وان اقتضى ذلك التضحية، كما فعل سقراط مثلا.

النزعة الظلامية ورهان التنوير

 

الحرية تقود الشعب ليوجين دولاكروا 1830

يسود العالم اليوم سحابة ملبدة كثيفة من الظلام، تمطر بزمجرة على كل ربوع العالم، عنوانها العريض الارهاب المقيت، الذي يضرب بعنف كل بقعة يرى فيها هامشا من النور. هذه النزعة الظلامية يغديها فكر غارق بجدوره في التاريخ، ينهل من تراث يمتد الى مئات القرون، وفهم مغلوط لمجرى التاريخ، كما تغديه من جهة اخرى العواطف السوداء كما يسميها سبينوزا، من كراهية وبغض وغريزة متأصلة في نفس الانسان، الذي لا يمكن فصله عن طبيعته الحيوانية التي تغدي فيه العنف والقتل.وكم يصيبني القرف ورغبة جياشة في محو كل الظلام الذي يلف العالم، وينتصر انتصارات عنيفة تغديها هتافات العبيد والاتباع، لهذا أخذت القلم لأنثر به الحروف وهي سلاحي ورصاصي. فأفضل طريقة لقهر الظلام ليست الاشتغال بمنطقه، وهو منطق العنف الأسود، ولكن بالعكس هو منطق مواجهته بضده، وهو النور. فإن كانت النزعة الظلامية تتغدى من تراث فقهي يمتح من مرجعيات الجهاد والسبي والقصاص والقتل وجز الرؤوس، فإن مرجعية النزعة التنويرية تمتح من فكرة -لابد ذات يوم تسود هذا العالم- وهي فكرة الانسانية النبيلة، التي يعتبر الانتصار لها مفتاح كل شعوب الأرض نحو التحرر من ربقة التخلف والعنف والظلامية. لكن دائما ما ينتصر الشر على الخير لأن هذا الأخير يركز على جوهر الإنسان الذي لا يمكن التغاضي عنه استنادا إلى مرجعية طوباوية وفكرة مثالية، تعتبر الانسان ابن الالهة او مخلوقا ملائكيا، أنني هنا أستند إلى الواقعية في تحليلي، لأؤكد على أن النزعة الظلامية لايمكن قهرها إلا بنزعة تنويرية أصيلة. و مادمت أعيش في مجتمع مازالت فيه الغلبة للظلام وثقافة الكراهية، وسيادة منطق القبيلة والطائفية. فإنني لن أتنكر من دوري التاريخي كمثقف تنويري لإعلان مشروعي وهو خلق مجتمع يسود فيه السلام والاختلاف، وتنتصر فيه فكرة المواطنة الكونية، بعيدا عن كل هوس هذياني بفكرة الأصالة والأفضلية، وحينما أتحدث عن النزعة الظلامية، لابد أن أصفها قليلا، لينقشع أي سوء فهم قد يصيب القارئ، فهذه النزعة بناء متكامل الأركان، أعمدته الهشة هي فكرة الانتماء، والافضلية، ويشكل هذه الأعمدة الدين والعرق الجغرافيا والثقافة والعادات…وكل الأشياء التي اخترعها الانسان وبدأ تقديسها بجنون، كل محاولة منه إضفاء طابع النسبية على تلك الانتماءات التي لا تتجاوز كونها وسيلة للعيش وليس غاية في حد ذاتها. لهذا اخترت أن أكتب لأساهم بدوري في العمل الدؤوب والصراع الذي يخوضه أصحاب الفكر المتنور ضد كل نزعات الشر، التي تسود العالم. لذلك كان لزاما علي أن آخذ سلاحي وأنضم إلى جبهة القتال، وأحارب من موقعي وسلاحي في ذلك فكري وقلمي، ولأؤكد وجودي وأدافع عن الطرح الذي أتبناه وأرتضيه، والذي لا يمكن لأي منا أن يعارضه إن فهم المنطق الذي يشتغل به، وهو منطق رحب وواسع، لا يتبنى العنف ولا يستند إليه، ولا يزكيه ولا يضفي عليه القدسية فالعنف في نظره كما يقول اريك فايل في كتابه منطق الفلسفة، لا يواجه بالعنف المادي، يواجه بعنف الفكر والخطاب، وهو الخطاب المتماسك والعقلاني الذي يطرح البدائل، ولا يركز على أي نزعة عدمية غير أصيلة، والخطاب المتماسك والصلب هو خطاب العقل، الذي يجد أكبر تجل له في عقول الفلاسفة، كما أنه يظهر في العلوم والفنون. لكن الخطاب الديني يمجد الخضوع، ويخدع الانسان، ويتاجر بمصيره، ويفقده انسانيته، ويقدف به في عالم الأوهام والأصنام، ويؤسس لكائن لا انساني، لهذا جاءت الفلسفة لتمنح الانسان جوهره الأصيل ولتلاقيه بالسؤال الذي ضاع منه، وتبدد من أمام ناظريه كل الأوهام المقدسة التي تأسر العقول والقلوب. وتزج بكل نزعة فردية أصيلة في بوتقة الجماعة والقبيلة والأمة. لدى كان لزاما علينا، نحن أبناء العالم الثالث أن نفهم منطق التاريخ وننخرط فيه، ونؤكد على المسار الصحيح الذي يجب أن نسلكه وهو مسار التنوير، والانغراس في تربة العالم النبيلة، ونشجع أصالة الذات، ونقهر كل القيود التي تربطنا، وتحبس اصالتنا وعمقنا في خطابات صيغت، في غيابنا، وحكم علينا قهرا ان نتبناها ونقدسها، ولا نسائل ونعلن خضوعنا المطلق لها، فكيف يجوز لنا أن نعيش في ظل استبداد في كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية؟ نعم إن الاستبداد السياسي يفرض علينا قسوته وجبروته، ولكن كيف المخرج منه؟ الحل في نظري تهديم الثوابت، التي تتأسس عليها السلطة، وهي منطق العنف، والقهر، لان التحرر لا ينطلق من المؤسسات والقوانين، ولا يرتبط بإسقاط الحكام والأنظمة، وتغييرها، ولا حتى بتزفيت الطرق، وترصيصها، ولا بتشييد البنايات الشاهقة، بل إن التحرر الحقيقي يبدأ من خلال، تحرير العقول من الأوهام التي نسجها التاريخ، وكرسها الحكام والأباطرة، إن التحرر هو أن نغير فهمنا للعالم، ونظرتنا نحوه، لنؤسس لنظرة جديدة تمتح من الحقيقة، ومن حاضر العالم، وأن ننخرط في التاريخ، وننتمي الى أمنا الارض هي بيتنا وجنتنا، هذه في نظري كل بداية للتحرر، لهذا اخترت أن انتمي الى الفلسفة فكرا وعقلا، وأن انتمي الى الانسانية، وان ادافع على السلام، وان اناصر النور والتنوير. لكن مسعاي يصطدم دائما بالنزعة الظلامية، التي لا تحب ان يتحرر الفرد من اوهامها ويؤسس ذاته، لأنها تتغدى من الاوهام، والعواطف السوداء، وتغدي رذيلة الخضوع والاستكانة. لهذا وجب النضال من أجل تحرير العقول، ونشر التنوير، وتأسيس مجتمع انساني كوني يحس فيه الانسان بإنسانيته، ويتمتع فيه بحقوقه ويؤدي واجباته الكونية، ويتمتع بحريته المطلقة في تحقيق ذاته.

كاتب مغربي

 

 

 

 

 

عقل لا يعرف الهدوء

 

لوحة الصرخة لإدفارد مانش 1893

إن الفكر، دودة تنخر العقول الأسئلة المحرقة والمحيرة، التي تدفع الذات نحو البحث والتساؤل، والرغبة المحمومة في القبض على الكلي، هذه ميزة ألمانية وحدهم النيتشويون،يعرفون معناها العميق، لأنهم يجدون تجسيدها الأسمى في مفهوم »إرادة القوة » التي دعا إليها نيتشه وبشر بها عقيدة للإنسان الأعلى، إنها « إرادة الحياة » الشوبنهاورية مقلوبة وهذه ميزة الفلسفة الألمانية، قلب للتصورات كساعة رملية. إن الذين يوسعون من آفاق عالمهم الضيق، وينزعون الحدود المبثوثة في العالم، حدود الجغرافيا، واللغة، والدين، والانتماء،والعقيدة.يعرفون معنى النزعة الإنسانية والمواطنة العالمية. لذلك تجد عقولهم ونظرا لشساعة ورحابة الآفاق الممتدة أمامها تعيش حالة من القلق الدائم هو سمة كل وجود أصيل، يتوخى البحث عن المبادئ الثابتة في العالم. إن هذا التحيز المفضوح نحو الكوني هو ما يجعل كل العظماء عبر التاريخ أدباء، فنانين، فلاسفة، أنبياء يتجهون نحو التأكيد على مبادئ تتجاوز كل الحدود الوهمية لتصل بمداها الى المطلق، متجسدا في فكرة خارقة وعظيمة، تحكم على من تبناها بالقلق، ليس بمفهومه المرضي، لكن القلق بمفهومه الوجودي، كحالة تجد الذات نفسها أمامها حائرة مندهشة باستمرار، ساعية للاكتمال، لكن واعية بذاتها، وبفنائها وتناهيها، وهي عملية زمانية بامتياز. وهذا هو جوهر الحياة بشكل عام، إنه نظام طبيعي مبتوت، لكن الثقافة صنعت عقاقير مخدرة لهذه الإنسانية الطافحة، عقاقير منومة »أوهام » قصفها نيتشه بقوة خلال القرن 19م.لكنها لم تنكسر،، رغم أنه أعمل طريقة خبيثة جدا لأنه قام بنقد جنيالوجي،سخر له كل طاقة جسده الواهن، وروحه العظيمة،لكن التلامذة الأوفياء لنيتشه أسسوا لمرحلة بكاملها هي مرحلة نيتشوية بالأساس،مرحلة ما بعد حداثية، مرحلة عدمية بامتياز، مرحلة قلقة وضجرة، لابد لكل ذات أن تأخد طابعها إن أرادت بعمق أن تجسد « روح العصر ».لكن مشكلنا نحن أبناء عقيدة الصحراء، أننا مازلنا نبحث عن الثوابت، أو لنقل أن بعضنا هو من يبحث عن الثوابت الجديدة، أما الغالبية العظمى فما زالت في مرحلة غيبوبة تاريخية، نوم أبدي، لن « يوقظنا » منه سوى نقد جنيالوجي راديكالي، يهز بنية وجودنا الحضاري من أساسها، ويبث فينا، عقيدة جديدة، تستوعب روح العصر وتندمج في « العالم الكلي »،ومن كان منا ينظر نظرة تتجاوز الآفاق المرسومة، وينظر بعيدا سيرى أن نزعة الأصالة الموبوءة، تندحر نحو هاوية التجاوز التاريخي التي لا تعرف المصادمة، لأنها عجلة ضخمة قدر »فوق إلهي »،مادام الإلهي، خارج دائرة التاريخ. لذلك فإن الإنسان الذي يوجد في هذا الوضع، سيصاب بفصام رهيب، لأنه يجمع المتناقضات، فيما يرتبط بوضعه التاريخي الخاص لابد أن يتبنى أفكار القرن الثامن عشر ويدافع عنها بقوة وصراحة، لكن في عمق كيانه هو مسكون بروح عدمية مرتبطة بالبنية العامة للتاريخ. لذلك فكل قلق في هذه اللحظة سيكون مفهوما،زد على ذلك أن هذه الذات،تعيش قمة جدلها الفكري، لأنه لأول مرة تربط إشكالاتها الذاتية الخاصة، بالروح العامة، وبالحضارة، والمصير المشترك.

dimanche 18 octobre 2020

! حسن أوريد وقنديل أم هاشم

 

كتاب متوسط الحجم، صادر عن المركز الثقافي العربي. يحكي فيه الدبلوماسي والأستاذ الجامعي ومؤرخ المملكة الأسبق ووالي مكناس السابق وزميل دراسة ملك المغرب. شخص جمع دزينة من المسؤوليات التي تحملها عبر مراحل من حياته التي بدأت حينما تم استدعاؤه من قرية في أقاصي الجنوب الشرقي للمغرب الصحراوي، ليتقاسم مقاعد الدراسة مع ولي عهد عرش المملكة. تحول خطير في حياة طفل أمازيغي من الجنوب، حكم عليه القدر بأن تتخذ حياته ذلك المنعطف، من الهامش إلى مطبخ السلطة في المغرب. لكن الروائي يصرح حينا ويلمح في أحيان أخرى، أنه لا ينتمي إلى ذلك العالم، عالم القصور وجناب الملوك، لذلك تعتبر سيرته الروائية " رَوَاء ُ مكة" بيانا صريحا عن طلاقه مع عالم قديم غير أصيل، وعودته إلى ذاته الحقيقية، حيث عنوانها الأكبر " الإسلام". وفي مقاطع كثيرة من الكتاب يستحضر الكاتب تجربته مع علاقته بالسلطة، التي كانت متوجسة منه واعتبرته " أوفقير ثان" فقامت بالتخلص منه في عهد الحسن الثاني. ومع حكم محمد السادس كان في محراب السلطة لكن مراكمته لأخطاء إدارية، أهمها لما كان واليا على مكناس عجلت بالتخلص منه والاستغناء عن خدماته. وهو ما نجد له حضورا متكررا في هذا العمل. وما يستحق التنويه في رواية أوريد هو أسلوبها المباشر وكشفها البين الواضح، ذلك البوح اللذيذ هو ما يجعل العمل يستحق الإشادة، رغم أن فيها عدة مواضيع قد تتفق معها أو تختلف. لكن الجميل أنها تعبير عن حقيقة ذاتية أصيلة ورحلة روحية، بدأت بالإسلام في الطفولة المبكرة التي يعود إليها الكاتب باستمرار سواء للحكي عن أحداثها أو لوصف لحظات السعادة الغامرة التي كان يعيشها، مرورا بمرحلة أخرى، لا نعرف عنها شيئا، هل كانت مرحلة إلحاد بواح، أم كانت لا أدرية أم كانت ربوبية. الكاتب لم يذكر هذه المسألة في الرواية. لكن الخطير هو أنه يقابل بين المرحلة العلمانية في تاريخه، وبين المرحلة الإيمانية التي عنوانها الإسلام ومكة و"الحبيب محمد رسول الله". ولا ندري هل هو موقف عميق في نفس الكاتب، أي أنه يعتبر أن الإسلام والعلمانية نقيضان بينهما برزخ لا يبغيان، وهو التأويل الذي ذهب إليه أحد وجوه التيار الإخواني في المغرب، الذي أول إيديولوجيا المنجز الروائي الأوريدي، وجعل الكثير من القراء المغاربة والمشارقة على السواء يبحثون عن رواية " العلماني والسكير والحداثي السابق" الذي تاب ورجع إلى الإيمان والإسلام ومكة. وهو ما لم ينفه صاحب" سيرة حمار". بل أكد أن ذلك التأويل يبقى صاحبه حرا فيه. وهو الموقف الذي يجب على كاتبنا أن يبينه لقرائه القدماء ومعجبيه " الحداثيين" و" العلمانيين" أي هل كتابه كفارة وتوبة أم مجرد حكي عن تجربة روحية خالصة؟ كي يزيل اللبس ويزيد في البوح الصادق مع نفسه ومع قرائه. هذا من جهة ومن جهة أخرى الرواية كتبت بأسلوب واضح رغم استثمار الكاتب لمعجم لغوي قديم يمتح من لغة الكتاب العرب الكلاسيكيين، ويوظف السجع والكناية ومختلف الزخارف البديعية. كما وظف الكثير من الأحاديث النبوية، والآيات القرآنية. تجعل القارئ يسترسل في القراءة خاصة أن الأحداث واقعية، رغم أن بعضها من وحي خيال الكاتب. خاصة في المقاطع النهائية من الكتاب. إن ما أثارني في الرواية، هو تعبير الرواية عن مأساة المثقف، الذي يعيش في مجتمع ممزق بين عالمين عالم الحداثة وعالم التقليد. فبالرجوع إلى طفولة الروائي، نجدها طفولة تقليدية صرفة، لكن انتقاله إلى الرباط أي إلى حياض السلطة، حيث الانشطار المزمن في عالم السلطة ذاته بين جهاز تقليدي عتيق هو " المخزن " وبين جهاز حديث هو الدولة. هذه الازدواجية كذلك في برامج التعليم التي تلقاها، والتي زاوجت بين تربية دينية كلاسيكية من جهة، وتربية منفتحة على الآداب الغربية واللغة الفرنسية بالخصوص. فحمل الكاتب هذه التناقضات المزمنة في شخصيته مدة طويلة، ولا ننسى تمزقه بين السياسة وعوالمها الخفية وأسرارها والتزاماتها وبين عالم الفكر والثقافة وأفقه الرحب. كل ذلك كانت مكة هي المكان الذي انفجرت فيه التناقضات وعاد الكاتب إلى الأصل إلى الصفاء إلى الطمأنينة، تعبر عنها الجملة التي أطلقها حول جدار الكعبة، أنا مسلم، رغم أنه نطقها بالفرنسية وهو ما يبين استمرار أزمته الوجودية والنفسية. إن الرواية هي بيان هل عن هزيمة أم نصر؟ المهم الكاتب اختار قرارا وتخلص من العقدة جزئيا. إنها تعبير عن مأساة مثقف العالم الثالث. في البداية تكون الثورة على القيم البالية في المجتمع ويسعى بخطابه ونضاله إلى تأسيس مجتمع جديد كلية. وحينما يؤسس لقيم جديدة يجد أن تلك القيم تربطه بالكونية، أي ما يعتبره أوريد قيما غربية. في لحظة أزمة وجدانية يحن حنينا رومانسيا نحو لحظة الصفاء والطمأنينة، فيترك الجمل بما حمل ويرتكس نحو ما كان يهاجمه أشد الهجوم أي أنه يرتمي في أحضان الخصوصية من جديد، في كتب سابقة لأوريد نراه يدعو إلى القيم الكونية للغرب وباعتبارها قيم تمس الإنسانية جمعاء، لكن نجده ونحن نقرأ في الصفحة 93 ما يلي: " إخوتي ليس من يجمعني وإياهم عرق أو لسان. إخوتي إخوة إيمان، من يرددون معي نفس النداء نداء " الله أكبر " ! كذا ومن لم يرددها؟ لا ندري هل هو مقصي من تلك الأخوة. أليست الأخوة أخوة في الإنسانية وليس أخوة في الدين؟

الكثير من النخب تمر من هذه التحولات المزمنة في لحظة من حياتها. لكنها تترك الأمر طي الكتمان وتمارس نوعا من التقية تجاه التيارات المتصارعة في المجتمع، حينا تلبس جبة الحداثة وقيمها وأحيانا - أخرى خاصة في حياتها الخاصة واليومية - تتصرف كما يتصرف العوام الذين تظل تسب قيمهم ونظرتهم للحياة. وما أكثر مثل هذه الحالات. لكن أوريد عبر عن تلك التحولات ووصفها بدقة وكانت له الشجاعة الأدبية في سرد تفاصيلها.

ذكرتني الرواية بمأساة الطبيب إسماعيل في رواية يحيى حقي، قنديل أم هاشم. الطبيب المصري الذي تلقى تكوينا علميا وأكاديميا بالغرب، وتخرج كطبيب ورجع إلى مجتمعه الأصلي محملا، برؤية جديدة للعالم عنوانها العلم والحداثة. ورفضه للطرق البدائية التي يتعالج بها مرضاه وهو استعمال زيت قنديل " مقام السيدة زينب".  الذي يستعمله مرضاه ظنا منه أنه مبارك، ومع اكتشاف الطبيب العقلاني إسماعيل لذلك قام بإتلاف القنديل، فتم اقصائه من قبل معارفه وأهله ومرضاه لأنهم اعتبروا ما قام به مسا خطيرا بقيمهم ومقدساتهم. ولأن الطبع يغلب التطبع فقد تملك الندم نفس إسماعيل وضحى برؤيته الحداثية للعالم وبقيمه التي تبناها عبر رحلته الروحية في الغرب. وارتمى من جديد في قدارة المجتمع وأمراضه وخرافاته. فاطمة التي خاصمها لما بلغ علمه أنها تتداوى بزيت القنديل. سيعالجها في النهاية بنفس العلاج. ليكفر عن الذنب والخطيئة، وليفتح قلبه للقذارة والوهم ويبرر لنفسه أنه جزء من مجتمعه، فكفر بقيم الغرب وبنظرته للعالم. فهل حسن رواء مكة؟ هو إسماعيل قنديل أم هاشم؟ هل المثقف في النهاية يستسلم للأمواج العارمة للتاريخ ولأمراض الثقافة؟ لا ندعي أن ما رجع إليه أوريد هو " القذارة" لأننا قد نفهم أنها تجربة ذاتية وسلسلة من الأحداث والتفاصيل تحكمت في قرار الرجل، لكن مسؤولية المثقف الأخلاقية أمام نفسه وأمام العالم وأمام الإنسانية، تستوجب أن يوضح أي إسلام يقصد، لأنه حينما يقول إنه عاد للإسلام؟ لا ندري أي إسلام يقصد هل الإسلام كتجربة روحية فردية أم الإسلام كتجربة سياسية واجتماعية وهو ما قد يصدم القارئ " الحداثي" لنسمه هكذا، لأن في مقاطع معينة في الكتاب يتحدث صاحبنا عن السياسة ويسترجع تجربة الإسلام في التاريخ، ويعتبرها الحل، ويقابل بينه وبين الغرب، ويكفر بالغرب وقيمه ويعلن نهايته، ويؤكد انتصار الإسلام." الغرب سراب، والمغتربون أعجاز نخل خاوية يحبون الدنيا ومفاتنها ولا يقوون على شيء." ص 101 ط5. إذن هل هي دعوة إلى إسلام سياسي غير معلنة؟ وما موقف الكاتب من استغلال أتباع هذه الإيديولوجيا الذين قال عنهم أنهم في مأزق في أحد كتبه؟ هل من حقهم استغلال منجزه الروائي ولي أعناق أحداثه؟ أليس من مسؤولية المثقف أن ينبه إلى كل ذلك ؟ خاصة وأنها تجربة ذاتية وليست مجرد أحداث متخيلة؟  كلها تساؤلات مشروعة قد يطرحها كل قارئ لا يسعى إلى متعة القراءة فقط بل يسعى إلى الفهم كذلك؟


jeudi 15 octobre 2020

! وضع قابل للانفجار

 


كثيرا ما نسمع كلما وقع احتجاج في منطقة معينة أن الأحداث تنبأ بانفجار الأوضاع الأمنية. والسبب راجع بالأساس إلى طبيعة الدولة القائمة عندنا. إنها دولة قائمة على القهر حيث لا تترك للأفراد حرية التصرف والتعبير، وتواجه كل مطلب مشروع في الحرية والكرامة والعدالة، بالهراوات والغاز المسيل للدموع وأحيانا بالرصاص. وما يلي ذلك من اعتقالات واختطافات ومحاكمات غير عادلة. تخمد نار التمرد في الشارع، لكن ما لا يعرفه المستبدون أن تلك النيران تظل مشتعلة في صدور المقموعين، حيث يتم اختزان الغضب والرفض تجاه الأوضاع السائدة، وأقل تحرك قد يفجر الوضع لأن شروط الانفجار والتمرد قائمة أصلا. وهذا ما شهدناه مؤخرا فيما سمي ب "ثورات الربيع الديموقراطي "، التي كان وراءها بائع متجول! تعرض للإهانة من طرف الأمن، فأحرق نفسه، وكان ذلك الحادث القشة التي فجرت الوضع في العالم العربي. وقد يتحول رد الفعل الذي يصدر عن الشعوب المقموعة، إلى عنف وقتل، وحتى نسف تام للدولة. هذا المفهوم الذي لم يترسخ بعد في الأذهان، والذي يجب تمييزه عن النظام السياسي، فحينما يسقط النظام لا يجب أن تسقط الدولة. إن بناء الدولة الحديثة هو الرهان الأساسي، الذي يجب النضال من أجله من طرف كل القوى الديموقراطية. والدولة الديموقراطية الحديثة هي دولة الحرية، حيث تستمد مشروعيتها من عقد اجتماعي بموجبه تتأسس سلطة عليا تدبر أمور المجتمع، سلطة مدنية، تنطلق من الاختلافات بين الأفراد، وتعطي الحرية للفرد الحر المستقل، لا سلطة تستمد أساسها من مشروعية دينية أو تاريخية او ثورية، أنداك فقط يمكن الحديث عن المواطنة. وهو ما يحدث في كل البلدان الديموقراطية التي تأسست في الغرب، لكن بلدان المشرق مازال الاستبداد الشرقي، هو السائد فيها، حيث إن الحكام يغتصبون السلطة ويركزونها في أيديهم و لايتركون الفرصة لتأسيس المواطنة، لذلك فإن الدول التي يحكمونها لم تترسخ بعد في أذهان مواطنيهم، لأنها دول قائمة إما على السلطنة، كما يقع في البلدان التي تعتبر فيها الملكيات المطلقة نظام الحكم السائد، أو القهر الذي يمارسه العسكر الذي ينطلقون من المشروعية الثورية لفرض سلطتهم. لذلك نجد أن الهواجس المسيطرة على دول الاستبداد الشرقي، هي هواجس أمنية بالأساس، وتعتبر وزارة الداخلية هي «أم الوزارات»، لأنها وجدت لغاية أساسية هي ضبط الجموع وقهر التمردات والتحكم في المجتمع كما أن هذا الهاجس الأمني يطغى على التعليم، فعوض تشجيع تعليم يحرر طاقات الفرد ويفجرها ويصقل مهاراته، نجد أنه يعمل على كبح إبداع المتعلمين والقضاء على روح الابتكار والتجديد، وهذا الهاجس يسود في كل القطاعات، لأن الحكام يخشون كل مرة أن يتمرد الأفراد، لأنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم يغتصبون السلطة. كمثل من يمتلك شيئا دون أن يقاسمه مع الآخرين. ولهذا نسمع أن السلطة في البلدان الاستبدادية، كتلك التي نعيش فيها تخاف من كل تحرك أو احتجاج، لأنها تعرف أن الأوضاع حينما تنفجر لن تستطيع السيطرة عليها من جديد. لذلك وجب على هذه الدول إعادة النظر في أساسها وفي سياساتها والدفع بإصلاحات عميقة وحقيقية في كل المجالات، كي لا تتحول المطالب بالإصلاحات إلى مطالب بإسقاط النظام.

 

 

تأملات مؤلمة في واقعنا الحضاري

 


إن المتأمل لوضعنا الحضاري العام، سيصاب بشعور بالمرارة كبير، لأنه لن يرى غير ازدياد نسبة التأزم والتراجع، الذي ليس في نظري وليد اليوم بل هو نتيجة لتراكم تاريخي طويل من الاخفاقات السياسية والثقافية والحضارية. وفي نظري أن ظهور الإسلام كان ثورة في شبه الجزيرة العربية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، لأن الإسلام قام بتوحيد عرب الجزيرة لأول مرة في التاريخ، وكل توحيد في نظري هو فعل عظيم! لكن امتداد هذه الديانة الجديدة على باقي الحضارات الأخرى، بقدر ما كان توسعا سياسيا لحضارة جديدة إلا أنه بالمقابل كان بمثابة وأد ثقافي لحضارات وثقافات كانت إلى حدود "الفتح " تمثل جوهرا ثقافيا وحضاريا متميزا. لذلك فإن ما يسمى اليوم بالحضارة العربية الإسلامية يتضمن في داخله ثقافات وإثنيات وعناصر ثقافية مكبوتة لابد من الاعتراف بها، ليس كأقلية بل جعلها عنصرا من الهوية الوطنية الجامعة القادرة على تحرير الوعي القومي الوطني للدول التي مازالت تحسب على «الشرق » بتعبير كثير من الدارسين. لذلك فمرحلة الأزمة التي نمر منها والتي تظهر في كل المستويات الثقافية والفكرية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية والسياسية والوجدانية وغيرها، ليس وليد اللحظة كما يخيل للكثيرين، لكنه نتيجة تراجع حضاري بدأ في نظري بسقوط بغداد في يد المغول خلال القرن الثالث عشر الميلادي، واستمرت نسبه ومقاديره حسب الوضع العام الذي تشكل عبر التاريخ، والذي أعطى للحضارة الغربية مركز الصدارة والهيمنة في وقت كانت فيه الحضارة الإسلامية، واللغة العربية رمز العالم المتحضر، لكن منطق التاريخ يفترض ولادة وازدهار وشيخوخة واندحار. وهو ما يسم اليوم وضعنا التاريخي الذي يعبر عن مرحلة الاندحار، وما الأزمات السياسية والثقافية التي نعيشها، ونكتوي بنيرانها، والتي تتمظهر جلية في الحروب والصراعات، وأشكال التطرف إلا المظاهر التي تفصح عن تلك الأزمة العميقة. إذن فكل مشكل في الحاضر يجد أسبابه العميقة في تربة الماضي. لذلك فإن كل تناول لمشاكلنا يجب أن يكون راديكاليا وجذريا، دون ذلك لا يمكننا أن نضع قدمنا في ركب الحضارة الكونية المعاصرة. وسنظل نجتر المرارة والتحسر على واقع ضاع منا، أو هكذا خيل لجلنا. لذلك فإن المتأمل عميقا في الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي سيجد أن المشكل يكمن في الثقافة، لأن مشكلتنا بالأساس « مشكلة ثقافية »، لذلك لا يمكن حل مشاكلنا بالثورات السياسية لوحدها كما يعتقد البعض، بل نحن في مسيس الحاجة إلى ثورة ثقافية تبدد الثقافة البائدة التي مازالت تسكن وجداننا، من أجل الخروج من كهوف الماضي المظلمة التي تجاوزها التاريخ، ولم نشعر بذلك أو قل بدأنا للتو بالشعور، لأن الأقوياء يتحرشون بكياننا الحضاري، بل الآن اغتصبوا ما استطاعوا إليه سبيلا، بل إنهم يقسمون وحدتنا الحضارية، ويخلقون وبمسميات عدة « عهد الكووس* العظيم ». لكن نحن من يتحمل القدر الأعظم من المسؤولية تجاه وضعنا الحضاري. لأننا ارتضينا لأنفسنا ذلك ولم نستطع أن نتأمل في قدرنا التاريخي، ولا أن نقوم بالجراحات العظيمة لأصل الداء الذي يظل باستمرار أكبر عائق أمام انخراطنا الكامل في العالم. إن التقدم المنشود رهين، بتغيير نظرتنا للعالم وكذا ملاءمة فكرنا للحضارة العصرية، بما تعنيه من مدنية، وسيادة للمعرفة، وازدهار للتصنيع وانتشار للفنون والآداب. إن الحضارة التي ورثناها، تشكل إرثا وتركة يجب أن نتوحد فيه، لكن ذلك لا يعني أن نفكر بذهن مازال يعتقد اننا أمة واحدة، لأن الواقع يؤكد أن كل الدول التي تسمى «عربية»، إن كانت بالفعل ضمن تلك الوحدة، إلا أن لكل دولة مشاكلها وهويتها الوطنية وكيانها الخاص. بذلك فاستقلال القرار الوطني بعيدا عن إملاءات «الوحدة» التي كانت شعار ما بعد الخمسينيات، لم يعد يلائم واقعنا السياسي، رغم أن التكتلات الاقتصادية والاندماج داخل كيانات معينة، يعود بالكثير من النفع. إلا أن ذلك لا يعني فقدان القرار الوطني. فكل دولة اليوم لها دستورها ووحدتها الوطنية القومية. ولابد لها أن تشعر بذلك وتعي به وتدافع عنه. وحتى الشعوب العربية التي مازالت تستشعر هذه الوحدة العربية، فذلك عنصر إيجابي وبناء، لكن كل كيان سياسي لابد أن يستقل برأيه ويحقق نهضته الخاصة، نظرا لتميز أوضاعه وخصائصه القومية. فالنهضة المنشودة التي نظر لها المفكرون العرب منذ محمد عبده والكواكبي ورضوان السيد، وصولا إلى الجابري والعروي وغيرهم، لن تتم بالشكل الذي تصوروه وهو نهوض حضاري للأمة العربية كلها، فهذا التصور الذي دافعوا عنه أملته الظروف التاريخية التي عايشوها. وهي ظروف الاستعمار الغربي، وحلم «الأمة العربية الاشتراكية الموحدة» التي لم تتحقق قط. لأن السبب في ذلك هو اختلاف الاوضاع داخل كل دولة. لذلك فكل نهوض لابد أن يرتبط بالدولة الوطنية، وحدودها. وثقافتها وسياستها. لكن النهوض المأمول يحتاج إلى «وعي شقي»، يضعنا أمام الصورة الحقيقية لوضعنا، ويدفعنا » شعبا وحكام » إلى « اختيار ما ليس منه بد » وهو الانخراط في المجتمع الحديث والديموقراطي.

 

*الكووس في الأسطورة اليونانية هي حالة الفوضى التي كان فيها العالم قبل سيادة النظام، اللوغوس.

 

 

بين مفكر و مكفرين

 


أعضاء التيار السلفي الظلامي، الذي كانت له المسؤولية الفكرية والمعنوية في الأحداث الإرهابية بالمغرب. تفاوض مع السلطة على أساس، إطلاق سراحهم مقابل قيامهم بمراجعات فكرية. الأستاذ عبد الوهاب رفيقي هو الوحيد الذي التزم بالاتفاق فقام بمراجعة شجاعة وملحوظة لأفكاره بل توصل إلى «سلفية مغربية» تنبذ العنف والتطرف، وتؤمن بالاختلاف وقيم التسامح. فيما الآخرون مازالت عقولهم مشدودة إلى منابع الوهابية المتطرفة فأخلوا بالعهد المنطق السليم في هذه الحالة يقتضي إعادة هؤلاء إلى السجن. هذا الكلام جاء في سياق الحملة المسعورة التي يتعرض لها، عبد الوهاب رفيقي، بعد إدلائه بتصريح صحفي يقول فيه بأن قوانين الإرث لم تعد خطا أحمر بل إن المسألة قابلة للاجتهاد بما يفيد تأسيس تشريعات مدنية تأخذ في اعتبارها مبدأ المساواة بين الجنسين. إلا أن هذا الكلام أثار غضب، رفاق أبو حفص، أو من يطلق عليهم» لسلفية الجهادية» وهم شيوخ الفتنة الذين كانت لهم أيدي في التفجيرات الإرهابية التي شهدها المغرب يوم 6 ماي 2003. وهم الذين حكموا على إثر ذلك بالسجن لمدد طويلة، إلا أن السلطة، تفاوضت معهم، وأطلقت سراحهم بعفو ملكي، لكن مقابل قيامهم بمراجعات فكرية. وأهم هؤلاء الشيخ حسن الكتاني، وعمر الحدوشي ومحمد الفيزازي، وهم الذين مازالوا يتعاملون بازدواجية المعايير، ويمارسون تقية مفضوحة في نظرتهم إلى النظام السياسي الحاكم. وهم الذين يطلقون فتاوى تدعوا إلى العنف والقتل، في كل مرة يتجرأ قلم مجتهد في مناقشة مسألة من المسائل التي ترتبط بالدين. فلم يسلم من سمومهم لا مفكر حر، ولا سياسي تقدمي، ولا حقوقي، ولا حتى إخوانهم في السلفية، وهو ما يؤكده الهجوم العنيف الذي تعرص له أبو حفص، إذ على إثر لقاءه التلفزيوني، أصدر هؤلاء فتواهم وأحلوا دم رفيقهم، في ظل صمت مطبق من طرف الأجهزة الأمنية، التي يجب عليها أن تتصرف في هذه الواقعة سيما في ظل السياسة التي تنهجها الدولة والتي تقضي بمحاربة كل أشكال التطرف. إن الفكر الظلامي الخبيث الذي يتبناه هؤلاء يؤكد بالملموس، أن المشروع الذي يحملونه وينادون به لا يختلف، بل هو بالأساس مشروع داعشي دموي، يقتضي قتل وتصفية كل فكر لا يوافقهم الرأي، وهو فكر منغلق لا يقبل الحوار، ولا يؤمن بالاختلاف، شعاره الماضي، ووسيلته الفتاوى والتكفير. وهو ما يستدعي من كل الفاعلين أن يتصدوا، كل من موقعه لهذا الفكر الظلامي، ولجماعات الدم هاته، التي تتصيد الفرص لتبث البلبلة والفوضى العارمة في البلاد، وهو ما تؤكده الاعتقالات المتتالية للخلايا الإرهابية في كامل التراب الوطني.

إن تكفير أبو حفص والهجوم عليه يؤكد بالملموس، عدم قدرة هؤلاء على القيام بمراجعات فكرية لما يحملونه من أفكار بل الأنكى أنهم يهاجمون كل من قام بذلك، وحاول بلورة تصور جديد، يأخذ بعين الاعتبار المعطى التاريخي، الذي يؤكد أن كل المشاريع المبنية على الفقه السياسي القروسطوي، لا يمكن لها النجاح. والدليل على ذلك أن السعودية التي تتبنى الوهابية تتخبط في مشاكل بالجملة لا تنتهي. أمام هذا الوضع أعلن تضامني المطلق مع عبد الوهاب رفيقي، وكل الأصوات الحرة والديموقراطية والحداثية، التي تؤمن بالمشروع الديموقراطي والتي تقبل الاختلاف الفكري والسياسي، لأنه مؤشر على روح التعايش التي يجب أن تسود المجتمع والعالم. وأشجب مقابل ذلك كل محاولة لإرجاع المغرب إلى قرون الظلام. فوحده المجتمع المفتوح والديموقراطي هو الأفق الذي يمكنه احتضان كل فسيفساء المجتمع المغربي، المنفتح والكوني بطابعه، وكل محاولة لنشر ثقافة الموت فيه، يستدعي منا التصدي له بكل حزم وقوة.

التحول الديموقراطي المزمن في سوريا

منذ 2011 حينما خرجت جحافل المتظاهرين في كامل أنحاء سوريا، كان الأمر سهلا في البداية، لأن الفوضى عادة ما تكون سهلة، وتحركت الحرب الأهلية فيما...