![]() |
إن الاشتغال بمسائل الفكر، وسلك دروبه الوعرة، والتخصص
في الافكار المجردة، يؤدي حتما الى ممارسة النقد، لأنه لا وجود لفكر دون نقد
فالنقد بداية الفكر ومنتهاه. وقد عرف التاريخ الانساني انماطا متعددة من التفكير واكبت
تطوره وتقدمه في التاريخ، منذ ان كان مجرد كائن حي، الى ان أصبح بفضل التطور
البيولوجي كائنا عارفاhomo
sapiens ثم بعدها كائنا يعرف
انه يعرفhomo sapiens. وقد بدا التفكير الانساني بسيطا جدا، حيث كان يعتمد
السحر والخرافة لتفسير ظواهر الكون. لكن شيئا فشيئا، سيتطور تفكير البشر خاصة
حينما تم اختراع الرمز الذي شكل في نظر ارنست كاسيرر ماهية الكائن الإنساني، وذلك
من خلال اختراع الكتابة، في الحضارة السومرية القديمة، وفور ذلك سيبدأ التاريخ،
منذ 3500 ق،م. وسيعتبر ما قبله عصور ما قبل التاريخ، وباختراع الكتابة سيتقدم
الانسان خطوة جد هامة في تاريخه، حيث سيتحول الخطاب الى خطاب مكتوب، يوفر بيئة
حاضنة للفكر المركب والمجرد الذي يتم التعبير عنه بالرموز، وهو ما حدث مثلا في الحضارة
اليونانية خلال القرن 6ق،م. حيث ستتشكل لأول مرة في التاريخ، نظرة مغايرة للنظرة
الأسطورية، وسيقام فهم جديد للعالم مبني على اللوغوس، يتجاوز كل التفسيرات
المافوقية التي كان البشر يفسرون بها الظواهر فكانت بداية الفلسفة العظيمة مع
فلاسفة ملطية الكبار، الذين حاولوا الاجابة عن سؤال الوجود بطرق تعتمد العقل
والتفسير المنطقي. ان هذه البداية شكلت مرحلة جديدة ستتطور بشكل مطرد، رغم بروز
نمط فكري آخر، لا يوظف العقل بقدر توظيفه للعواطف والايمان، والمقصود هنا الخطاب
الديني، الذي شكل نمطا تختلط فيه النظرة السحرية بالنظرة الاسطورية للعالم، ويتوخى
حجب الأسئلة المؤرقة والاجابة عنها وطي الصفحة، وهي أسئلة المصير الإنساني. الدين
سيدخل في صراع مع الفلسفة خلال القرون الوسطى لكنه لم يستطع القضاء عليها فوظفها
لصالحه، من أجل نزع الطابع المنطقي على بعض منطوقاته، لكن في الأخير سيتوارى الدين
عن الساحة العمومية، بعد المعركة الشرسة التي خاضتها الشعوب ضده، خلال عصور
التنوير المجيدة، كما أن الخطاب الديني ستتهافت مقولاته أمام الخطاب العلمي، الذي
انفصل عن الفلسفة خلال القرنين 16و 17م. اذ تم تخريب النظرة الأسطورية التي دافع
عنها الدين، وقتل من أجلها ونكل، وهي القائمة على النظرة المغلقة للكون، المستندة
لنظرية بطليموس الفلكية القائلة، بسطحية الأرض وبدوران الشمس حولها. هذا التصور
سيزول في العصور الحديثة مع نظرية كوبرنيك. وسيصاب الانسان بجرج نرجسي غائر حيث
أصبح مجرد نقطة تافهة في كون شاسع. والعلم هو نمط التفكير الذي يفسر العالم
استنادا إلى النظرية والتجربة، كما يقوم بتكميم الطبيعة وتحويلها، ليوفر للإنسان
التحكم فيها، والتحول من عبد لها الى سيد عليها، كما دعا إلى ذلك ديكارت خلال
القرن السادس عشر. والمعروف ان وجود الانسان محكوم بمجموعة من المحددات، أهمها أنه
كائن اجتماعي بطبعه، لا يمكنه أن يعيش بمعزل عن الآخرين، وبالتالي ظهرت أشكال
متعددة من التضامن بين الأفراد، ويقسم عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم، أنواع
التضامن بين الجماعة إلى تضامن آلي ميكانيمي وآخر تضامن عضوي. وهو الفارق بين
المجتمعات البدائية والمجتمعات الحديثة. ومن أجل تنظيم الجماعة لابد من توزيع
للسلطة بطريقة تضمن استمرارية الجماعة، وعدم تفتتها أو زوالها، لهذا كانت السياسة
هي الطريق الأنجع لممارسة السلطة هذا الموضوع الذي شغل حيزا هاما من الفكر الفلسفي
خلال القرن العشرين. فالسياسة لا يجب النظر إليها، كجهاز أو سلطة مادية، لكنها
أقرب إلى ما يسميه مشيل فوكو بميكروفيزياء وماكوفيزياء السلطة، أي أنها تتخد
مظهرين أساسيين، والمظهر الخفي أشمل من المظهر الجلي، لهذا كانت السلطة دائما في
حاجة إلى خطاب يشرعن وجودها،وهو الخطاب الايديولوجي، الذي أسال الكثير من مداد المفكرين
والفلاسفة منذ ماركس، الذي كتب كتابا سماه بالإيديولوجية الالمانية، والذي دعا فيه
الى فضح المستغلين في البنى الاقتصادية الرأسمالية، التي تستغل الأفراد وتزيف
وعيهم بأفكار لا صلة لها بالقوانين الاقتصادية المادية، التي تحرك التاريخ. لهذا
كثر الخطاب في القرنين 19م و20م حول الايديولوجيا. ووقع سوء فهم كبير لها. لكن هي
في أبسط تعريف لها نظرة للعالم. تستند الى الفكر وتمارس في السياسة. فالإيديولوجيا
بهذا المعنى فكر يتوخى تغيير الواقع أو تشويهه أو تبريره وهي الوظائف التي حددها
لها بول ريكور.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire