![]() |
يحتفل العالم كل ثالث خميس من كل سنة باليوم
العالمي للفلسفة، وهي مناسبة جليلة من جانب، لأنها تتيح لنا التأكيد على قيمة
الفلسفة باعتبارها نمطا من التفكير العقلاني، الذي حمل الانسان إلى أفاق أخرى
تتجاوز توجسه من العالم وتقديسه، نحو لحظة امتلاكه وفهمه وتفسيره. إن الفلسفة نزعت
السحر عن العالم كما يقول عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر désenchantement du monde
لأنها اتاحت تفسيرا عقلانيا يتجاوز التصورات
الاسطورية الميتة في فهم العالم.
والعلوم اليوم رغم تخصصها وتجزيئها تظل في حاجة
الى الفلسفة، لأن صلة الوصل بينهما لم تنقطع كما يتوهم البعض ذلك، بل إن جسور
التواصل مازالت ممتدة بينهما. فعالم الفلك مثلا، حينما يتساءل عن أصل الكون فإنه
يكون في حضرة الفلسفة مادام التساؤل عن الأصل هو أساس كل ميتافزيقا.
أما من جانب آخر فان تخصيص يوم عالمي للفلسفة
يدل بما لا يدع مجالا للشك بأن الفلسفة لم تحظ بالمكانة التي تستحقها، وإلا لماذا
لا نحتفل بيوم عالمي للعلم أو يوم عالمي للمنطق أو يوم عالمي للفيزياء والطب
وغيرها؟ مادام في نظري أن كل مناسبة كهذه إلا وفيها قدر معين من الاحساس بعدم
اعطاء المكانة المكفولة لها. حتى أن جوائز نوبل ليست فيها نوبل للفلسفة. وكل
الفلاسفة الذين حصلوا على هذه الجائزة حصلوا عليها بناء على أعمال أخرى غير
أعمالهم الفلسفية، فحينما منحت جائزة نوبل للفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، منحت له
بناء على أعماله الأدبية وليس الفلسفية. ونفس الشيء مع هنري برجسون وجون بول سارتر
وبرتراند راسل وغيرهم. لكن الجميل في عالم الفلسفة أنها لا تنتظر من يحتفل بها ولا
من يكرمها ولا من يكرهها، أو حتى يعشقها.لأنها مكتفية بذاتها مادام السؤال —وهو
التربة التي تتغدى منها الفلسفة- حاضرا دائما. فمادام الانسان ومادام الموت
والمصير والبحث عن السعادة ورغبة البشر في السلام والتسامح وأزمات العلم وغيرها
موجودة، فإن الفسفة بدورها تظل حاضرة لتجيب، كنمط بديع من تأمل العالم. هذا التأمل
الذي تحدثة الدهشة، التي اعتبرها أرسطو شرط كل فلسفة، الدهشة الفلسفية هي أن يتحول
العالم إلى مكان غريب كما يقول جوستاين غاردنر في كتابه الرائع «عالم صوفي »
إن تلك الدهشة هي ما يجعل الطفل يتساءل أسئلة فلسفية ميتافزيقية حينما يبدأ في
إدراك ذاته والعالم من حوله. انه يتأمل الأشياء، ويطرح الأسئلة المحيرة والكبيرة :
سؤال أصله ( من أين أتيت؟) وسؤال مصيره:(إلى أين يذهب الأشخاص حين يموتون؟)، وسؤال
الله(أين يوجد الله ومن خلق الله؟). إنها الاسئلة المحيرة التي من الأكيد أن كل
واحد منا قد طرحها في طفولته. فقد كنا كلنا فلاسفة ذات لحظة!فأن تكون فيلسوفا لا
يعني أن تتحول إلى إنسان خارق، أوأن تتجاوز طبيعتك لتكون في مصاف الآلهة والملوك.
أن تكون فيلسوفا هو أن تعود إلى طفولتك، وتعيد طرح تلك الأسئلة… ولكن هذه المرة من
أجل أن تتأكد بنفسك من الأجوبة التي قدمتها لك أمك.يعني أن تمحص وتنتقد وتشك
وتبحث… هكذا يمكننا أن نتفلسف.
أما الدافع الثاني الذي يأتي بعد الدهشة فهو
دافع الشك. فلاوجود لأي فلسفة لا تبنى على مساءلة البديهي والعادي والمكتسب
والمتوارث، من الأفكار والتصورات. إن الشك هو الطريق الملكي نحو الحقيقة، ونحن
حينما نقول الشك لا نقصد الشك المذهبي، أي أن نشك من أجل الشك، كما يفعل الشكاكون،
أي اصحاب مدرسة الشك الذين يؤمنون بأنه لا وجود للحقيقة. بل الشك المقصود هنا هو
الشك المنهجي على طريقة ديكارت. الشك الذي يهدم اللاحقيقة من اجل أن يؤسس للحقيقة،
الشك الذي به نزعزع الأفكار الفاسدة التي لم تعد تناسب الواقع ولا تتطابق معه.فبه
نحث انفسنا على التفكير وبه نشعر ذواتنا بقلق دائم، لأن قلق المعرفة وقلق العبارة
هو شرط أصيل لكل حقيقة.
أما الدافع الثالث، والذي لا يختلف عن الدافعين
الأولين، فهو دافع سؤال الذات ومعرفتها، فكل فلسفة في نظري لا تقوم إلا نتيجة
مساءلة مستمرة للذات، لهذا نجد الفيلسوف الابستمولوجي الفرنسي المعاصر جورج
كانغيلام، يصف الفلسفة بأنها «ورشة وليست معبدا »ومعنى ذلك أنها سيرورة
مستمرة من التفكير، مادام أن الفلسفة ليست فيها عقائد راسخة ولا دوغمائيات، فكل ما
فيها هو فكر متجدد هو حركة مستمرة « دافع حيوي » إن استعرنا مفهوم هنري
برغسون. والذات في هذه الحالة هي المحك التي عليه تنجز التجارب، وتجرب
الأفكار، لهذا كانت الفلسفة دائما بنت المدينة، ونتيجة العزلة والتأمل الذاتي. لأن
التأمل في الذات هو ما يمنح الانسان فرصة الاستقلال النسبي عن المجموع، عن الحشود
عن الجماهير، التي لا تفكر، ولا تتميز بفكر نقدي، لأن ما يسيرها كما يقول غوستاف
لوبون في
كتابه: "سيكولوجيا الجماهير" هو
العاطفة والغريزة وليس العقل. إن الرجوع إلى الذات وتأملها واكتشافها ومحاولة
نحتها كما يدعونا الفيلسوف الفرنسي المعاصر مشيل أونفراي في كتابه sculpture de soiهو ما يشكل كل دافع أصيل نحو تذوق الفلسفة.
أما الدافع الرابع والأخير، والذي به تتحقق
عملية التفلسف فهو البحث عن الحقيقة، فكل فلسفة هي جهد أصيل من أجل الحصول على
الحقيقة. والحقيقة كما هي حتى وإن كانت مرة وغير مستساغة، لأن أغلب البشر يفضلون
الأوهام اللذيذة على الحقيقة المرة. إن البحث عن الحقيقة في ذاتها هو بداية
الفلسفة ومنتهاها. لهذا كان الفيلسوف دائما صديق الحقيقة، والفيلسوف الحق هو الذي
ينشد الحقيقة، ويدافع عنها ويضحي إن اقتضى الأمر من أجلها، ولنا في تاريخ الفلسفة
نماذج كثيرة، كسقراط الذي فضل شرب السم على التنازل عن الحقيقة التي توصل إليها،
كذلك جيوردانو برونو العالم والفيلسوف الإيطالي الذي أحرقه رجال الدين لأنه رفض ان
يتخلى عن الحقيقة التي يؤمن بها، وفي تراثنا العربي الاسلامي نجد ابن رشد الذي
اضطهد في اخريات أيامه لأنه كان يبتغي الحق لا الباطل، وابن سينا والرازي…وغيرهم
كثير.
يتبين لنا إذن أن الفلسفة هي التي تحقق جوهر
الإنسان، وتلاقي الإنسان بنفسه، وتضعه مباشرة أمام مصيره، فكل تفكير فلسفي يكون
نتيجة اندهاش من العالم ثم تشكيك في الآراء الباطلة، و تأمل في الذات، وابتغاء
مطلق للحقيقة.
والتضحية والصدق بدورهما شرطان ملازمان لكل
إجتهاد فلسفي أصيل.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire