vendredi 23 octobre 2020

طوماس هوبز والثورة السورية

 


شكل القرن 17م نقطة تحول في تاريخ أوروبا وفي تاريخ الإنسانية عموما حيث تم الانتقال بالتدريج من قرون الظلام الوسطوية إلى عصور الحداثة هذه الأخيرة التي تظافرت مجموعة من العوامل في بلورتها وكشف جوهرها، أهمها: الاكتشافات الجغرافية والتقدم العلمي والاصلاحات الدينية. إنها بالتالي ملامح النهضة الأوروبية التي سيتم السير عليها. والتي لم تأت بطبيعة الحال في آن واحد لأنها كانت. عملية تاريخية تبلورت عناصرها وملامحها الكبرى شيئا فشيئا. وفي هذا السياق بالضبط شهدت المجتمعات الأوروبية تحولات جوهرية في المجال السياسي، وظهرت مجموعة من الاضطرابات السياسية والتحولات الجوهرية جعلت يراع الفلاسفة والمفكرين ينبض من أجل القبض على روح العصر وترجمة فلسفة توافق الآمال الشعبية وترسم الخطوط العريضة للحداثة الشاملة، خاصة السياسية منها. وفي هذا الإطار ظهرت النظريات السياسية التي تطورت في مجال الفكر السياسي،لتقترح بلورة تأسيس ميتافزيقي إن صح القول للدولة بمفهومها الحديث، كصيغة مثلى تعبر عن الاجتماع البشري. وقد بدأ الفلاسفة في بلورة تصورات تقترح النظام السياسي الملائم للشعوب، تتجاوز من خلاله أشكال المشروعية السياسية التي كانت تنهض عليها الدول،خاصة المشروعية الدينية التي كان الملوك يؤسسون عليها سلطاتهم باعتبارهم ظلال الآلهة على الأرض وحقهم المقدس في ممارسة السيادة على شعوبهم. لكن التحولات التاريخية التي ظلت مستمرة فرضت بلورة تصورات سياسية جديدة تؤسس للاجتماع البشري على أسس تتجاوز الأشكال القروسطوية القديمة وتعبر عن الراهنية التاريخية التي أصبحت شيئا فشيئا تتخلص من الحضور الإلهي، والعناية الإلهية حيث بدأت روح الحداثة تعطي للإنسان المركزية مقابل عالم الألوهية الذي أصبح مفارقا ومنفصلا عن العالم. وهذا ماظهر في فلسفة ديكارت باعتباره أب الحداثة بامتياز،حيث فصل الذات الإنسانية عن التأسيس الميتافزيقي اللاهوتي الذي كان سائدا في القرون الوسطى، وبوأته بالمقابل الصدارة والمركز باعتباره ذاتا مفكرة وبالتالي انكشاف عنيف للأنا مقابل تواري الآلهة وصعودها إلى السماء أو استقرارها في المجالات الخاصة، أي في قلوب المؤمنين بها. وهو مافرض على التفكير الفلسفي النظر إلى المجتمع على أساس جديد، عليه تتأسس السيادة ومشروعية السلطة. وفي هذا الإطار بالذات بدأت الفلسفة ترسم الوجه الجديد للمدنية الحديثة خاصة مع الثورات المتتالية، والصراعات الدينية الدموية، وظهور القوميات الأوروبية التي ستفرز "الدولة-الأمة " كمفهوم جديد داخله تتبلور الحياة الاجتماعية للشعوب، وبالتالي انهيار الإمبراطوريات القديمة وتشكل أوروبا الحديثة. إن الاجتماع السياسي باعتباره ضرورة وجودية، لا يتأسس إلا على تنظيم عقلاني محكم يستمد المشروعية من داخله لا من خارجه، هنا المحايثة باعتبارها المنطق الذي يسود، سواء في العلم أو الدين أو الفلسفة وحتى في المجال السياسي. وعليه فقد أصبح «العقد الاجتماعي» النظرية الأساس التي يجب أن تتأسس عليها مشروعية الدولة، وهي من مفرزات العقلنة والتحديث التي انخرطت فيها أروبا، لكن الوصول إلى تعاقد اجتماعي مكتمل كما نراه اليوم في الدول الديموقراطية،لم يكن ليتأسس دفعة واحدة،لكن جاء بالتدريج. لهذا نجد العقد الاجتماعي باعتباره أساس قيام الدولة الوطنية في أوروبا، كان في البداية يستوجب قيام سلطة الدولة على عقد واتفاق بين الحاكم والأفراد، مقابل توفير "الأمن والسلم ". لأنه في الأدبيات السياسية لا يمكن تدشين التقدم المجتمعي في ظل عدم الاستقرار وفي ظل انتشار العنف والاقتتال. تقوم الدولة لتوفر الأمن والسلم، عقد ذو بند وحيد، التنازل عن الحرية الطبيعية، التي تترجم القتل مقابل توفير السلم والأمن. وهو الطرح الفلسفي الذي بلوره الفيلسوف الانجليزي طوماس هوبز في كتابه الشهير "الليفيتان "، مؤسسا بذلك لأول تنظير في المجال السياسي ومدشنا لنظرية العقد الاجتماعي التي ستتطور بعد ذلك مع فلاسفة آخرين خاصة اسبينوزا وجون لوك وجون جاك روسو. إن حديثنا هنا سينصب على طوماس هوبز، نظرا لراهنية أطروحته فيما يتعلق بالظروف التاريخية التي يمر منها العالم الاسلامي اليوم،خاصة دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا على وجه التخصيص، التي تشهد ولادة تاريخ جديد. وبالنظر إلى بعض الدول التي تشهد دمارا شاملا وتشكل بؤرة تحول جيوبولوتيكي، اتضحت خيوطه الكاملة، بعدما خرج الفاعلون الذين كانوا يدبرون في الخفاء إلى العلن، لزعزعة الأوضاع في المنطقة باسم «الديموقراطية » و »حقوق الانسان » و "التغيير" الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط تفترض من الشعوب التي تعيش هذه المأساة أن تؤسس لرؤية ثاقبة تستقرأ وضعها التاريخي من أجل أن تبني أوطانها بإرادتها الحرة وتصنع قدرها التاريخي بكل وعي ومسؤولية إن ما تشهده سوريا اليوم يؤكد بالملموس أن الفرضية التي وضعناها في البداية صحيحة بشكل كبير، والتي ترى أن الفاعلين الحقيقيين وراء الحراك الشعبي السوري، وظفوا معاناة السوريين وغضبهم من أجل تخريب الدولة السورية، سعيا وراء مصالحهم الاقتصادية والسياسية والأمنية، لاحبا في سواد عيون السوريين و لابد هنا من التمييز بين النظام السياسي الحاكم، والذي نتفق جميعا على تسلطه و دكتاتوريته، وبين الدولة، كشكل من أشكال التنظيم العقلاني للمجتمع، لهذا فإننا إذ نؤكد على وجوب تحقيق الديموقراطية في سوريا،ديموقراطية حقيقية تتجاوز الشعارات التي جيش بها أعداء سوريا، السوريين على الدولة، نؤكد بالمقابل أنه لا يجب تخريب الدولة باعتبارها تجسيد مطلق لفكرة أخلاقية، كما قال بذلك فردريك هيجل إن أفضل حل لما يجري في سوريا من اقتتال، هو خلق تعاقد اجتماعي بين الدولة والشعب السوري. فمطلب السوريين هو عودة الأمن الى شوارعهم وأحياءهم، وعودة العائلات إلى بيوتها من أجل الحصول على قليل من الدفء، وتوقف حمام الدم الذي استمر لسنوات، كذلك توقف لعلعة الرصاص، ودوي الانفجارات المتتالية، وخروج جماعات الدم العابرة للحدود من تربة الشام الطاهرة. لهذا وجب التفكير بواقعية، والواقعية في نظري تقترض التنازل من كلا الطرفين، لعودة السلم، لهذا وجب على السوريين عقد مصالحة وطنية شاملة، وتطهير البلاد من جحافل الارهابيين، وضرورة التمييز بين الدولة كمؤسسات وبين النظام السياسي الحاكم. لهذا نتمنى أن تتبلور تصورات سياسية واضحة تستفيد من التاريخ وتتجاوز منطق الولاء والطائفية، وتستحضر الواقعية باعتبارها الجوهر الأساس في السياسة. لأن تعنت الأطراف لن يؤدي إلا إلى زيادة تأزيم الأوضاع والقضاء على ما تبقى من الدولة. إن السوريين شعب حباه الله بالغنى الحضاري والثقافي، وبلاد الشام هي مهد الحضارة الإنسانية، لكن تعنت النظام السياسي من جهة، وتكالب الدول العربية والقوى الدولية، جعل هذه الأرض الطيبة تسقى بالدماء لمدة تزيد عن ست سنوات، فمتى تنتهي المأساة، ويعود الاستقرار؟ لكن أكيد أن هذه التجربة التاريخية سيستفيد منها الشعب السوري وستنهض سوريا من جديد دولة ديموقراطية قوية.

المقال منشور بموقع رأي اليوم

 

 

 

 

 

 

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

التحول الديموقراطي المزمن في سوريا

منذ 2011 حينما خرجت جحافل المتظاهرين في كامل أنحاء سوريا، كان الأمر سهلا في البداية، لأن الفوضى عادة ما تكون سهلة، وتحركت الحرب الأهلية فيما...