كتاب متوسط الحجم، صادر عن المركز الثقافي العربي. يحكي
فيه الدبلوماسي والأستاذ الجامعي ومؤرخ المملكة الأسبق ووالي مكناس السابق وزميل
دراسة ملك المغرب. شخص جمع دزينة من المسؤوليات التي تحملها عبر مراحل من حياته
التي بدأت حينما تم استدعاؤه من قرية في أقاصي الجنوب الشرقي للمغرب الصحراوي،
ليتقاسم مقاعد الدراسة مع ولي عهد عرش المملكة. تحول خطير في حياة طفل أمازيغي من
الجنوب، حكم عليه القدر بأن تتخذ حياته ذلك المنعطف، من الهامش إلى مطبخ السلطة في
المغرب. لكن الروائي يصرح حينا ويلمح في أحيان أخرى، أنه لا ينتمي إلى ذلك العالم،
عالم القصور وجناب الملوك، لذلك تعتبر سيرته الروائية " رَوَاء ُ مكة"
بيانا صريحا عن طلاقه مع عالم قديم غير أصيل، وعودته إلى ذاته الحقيقية، حيث
عنوانها الأكبر " الإسلام". وفي مقاطع كثيرة من الكتاب يستحضر الكاتب
تجربته مع علاقته بالسلطة، التي كانت متوجسة منه واعتبرته " أوفقير ثان"
فقامت بالتخلص منه في عهد الحسن الثاني. ومع حكم محمد السادس كان في محراب السلطة
لكن مراكمته لأخطاء إدارية، أهمها لما كان واليا على مكناس عجلت بالتخلص منه والاستغناء
عن خدماته. وهو ما نجد له حضورا متكررا في هذا العمل. وما يستحق التنويه في رواية
أوريد هو أسلوبها المباشر وكشفها البين الواضح، ذلك البوح اللذيذ هو ما يجعل العمل
يستحق الإشادة، رغم أن فيها عدة مواضيع قد تتفق معها أو تختلف. لكن الجميل أنها
تعبير عن حقيقة ذاتية أصيلة ورحلة روحية، بدأت بالإسلام في الطفولة المبكرة التي
يعود إليها الكاتب باستمرار سواء للحكي عن أحداثها أو لوصف لحظات السعادة الغامرة
التي كان يعيشها، مرورا بمرحلة أخرى، لا نعرف عنها شيئا، هل كانت مرحلة إلحاد
بواح، أم كانت لا أدرية أم كانت ربوبية. الكاتب لم يذكر هذه المسألة في الرواية.
لكن الخطير هو أنه يقابل بين المرحلة العلمانية في تاريخه، وبين المرحلة الإيمانية
التي عنوانها الإسلام ومكة و"الحبيب محمد رسول الله". ولا ندري هل هو
موقف عميق في نفس الكاتب، أي أنه يعتبر أن الإسلام والعلمانية نقيضان بينهما برزخ
لا يبغيان، وهو التأويل الذي ذهب إليه أحد وجوه التيار الإخواني في المغرب، الذي أول
إيديولوجيا المنجز الروائي الأوريدي، وجعل الكثير من القراء المغاربة والمشارقة
على السواء يبحثون عن رواية " العلماني والسكير والحداثي السابق" الذي
تاب ورجع إلى الإيمان والإسلام ومكة. وهو ما لم ينفه صاحب" سيرة حمار".
بل أكد أن ذلك التأويل يبقى صاحبه حرا فيه. وهو الموقف الذي يجب على كاتبنا أن
يبينه لقرائه القدماء ومعجبيه " الحداثيين" و" العلمانيين" أي
هل كتابه كفارة وتوبة أم مجرد حكي عن تجربة روحية خالصة؟ كي يزيل اللبس ويزيد في
البوح الصادق مع نفسه ومع قرائه. هذا من جهة ومن جهة أخرى الرواية كتبت بأسلوب
واضح رغم استثمار الكاتب لمعجم لغوي قديم يمتح من لغة الكتاب العرب الكلاسيكيين،
ويوظف السجع والكناية ومختلف الزخارف البديعية. كما وظف الكثير من الأحاديث النبوية،
والآيات القرآنية. تجعل القارئ يسترسل في القراءة خاصة أن الأحداث واقعية، رغم أن
بعضها من وحي خيال الكاتب. خاصة في المقاطع النهائية من الكتاب. إن ما أثارني في
الرواية، هو تعبير الرواية عن مأساة المثقف، الذي يعيش في مجتمع ممزق بين عالمين
عالم الحداثة وعالم التقليد. فبالرجوع إلى طفولة الروائي، نجدها طفولة تقليدية
صرفة، لكن انتقاله إلى الرباط أي إلى حياض السلطة، حيث الانشطار المزمن في عالم
السلطة ذاته بين جهاز تقليدي عتيق هو " المخزن " وبين جهاز حديث هو
الدولة. هذه الازدواجية كذلك في برامج التعليم التي تلقاها، والتي زاوجت بين تربية
دينية كلاسيكية من جهة، وتربية منفتحة على الآداب الغربية واللغة الفرنسية
بالخصوص. فحمل الكاتب هذه التناقضات المزمنة في شخصيته مدة طويلة، ولا ننسى تمزقه
بين السياسة وعوالمها الخفية وأسرارها والتزاماتها وبين عالم الفكر والثقافة وأفقه
الرحب. كل ذلك كانت مكة هي المكان الذي انفجرت فيه التناقضات وعاد الكاتب إلى
الأصل إلى الصفاء إلى الطمأنينة، تعبر عنها الجملة التي أطلقها حول جدار الكعبة،
أنا مسلم، رغم أنه نطقها بالفرنسية وهو ما يبين استمرار أزمته الوجودية والنفسية.
إن الرواية هي بيان هل عن هزيمة أم نصر؟ المهم الكاتب اختار قرارا وتخلص من العقدة
جزئيا. إنها تعبير عن مأساة مثقف العالم الثالث. في البداية تكون الثورة على القيم
البالية في المجتمع ويسعى بخطابه ونضاله إلى تأسيس مجتمع جديد كلية. وحينما يؤسس
لقيم جديدة يجد أن تلك القيم تربطه بالكونية، أي ما يعتبره أوريد قيما غربية. في
لحظة أزمة وجدانية يحن حنينا رومانسيا نحو لحظة الصفاء والطمأنينة، فيترك الجمل
بما حمل ويرتكس نحو ما كان يهاجمه أشد الهجوم أي أنه يرتمي في أحضان الخصوصية من
جديد، في كتب سابقة لأوريد نراه يدعو إلى القيم الكونية للغرب وباعتبارها قيم تمس
الإنسانية جمعاء، لكن نجده ونحن نقرأ في الصفحة 93 ما يلي: " إخوتي ليس من
يجمعني وإياهم عرق أو لسان. إخوتي إخوة إيمان، من يرددون معي نفس النداء نداء
" الله أكبر " ! كذا ومن لم يرددها؟ لا ندري هل هو مقصي من تلك
الأخوة. أليست الأخوة أخوة في الإنسانية وليس أخوة في الدين؟
الكثير من النخب تمر من هذه التحولات المزمنة في لحظة من حياتها. لكنها تترك الأمر طي الكتمان وتمارس نوعا من التقية تجاه التيارات المتصارعة في المجتمع، حينا تلبس جبة الحداثة وقيمها وأحيانا - أخرى خاصة في حياتها الخاصة واليومية - تتصرف كما يتصرف العوام الذين تظل تسب قيمهم ونظرتهم للحياة. وما أكثر مثل هذه الحالات. لكن أوريد عبر عن تلك التحولات ووصفها بدقة وكانت له الشجاعة الأدبية في سرد تفاصيلها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire