إن
المتأمل لوضعنا الحضاري العام، سيصاب بشعور بالمرارة كبير، لأنه لن يرى غير ازدياد
نسبة التأزم والتراجع، الذي ليس في نظري وليد اليوم بل هو نتيجة لتراكم تاريخي
طويل من الاخفاقات السياسية والثقافية والحضارية. وفي نظري أن ظهور الإسلام كان
ثورة في شبه الجزيرة العربية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، لأن الإسلام قام
بتوحيد عرب الجزيرة لأول مرة في التاريخ، وكل توحيد في نظري هو فعل عظيم! لكن
امتداد هذه الديانة الجديدة على باقي الحضارات الأخرى، بقدر ما كان توسعا سياسيا
لحضارة جديدة إلا أنه بالمقابل كان بمثابة وأد ثقافي لحضارات وثقافات كانت إلى حدود
"الفتح " تمثل جوهرا ثقافيا وحضاريا متميزا. لذلك فإن ما يسمى اليوم
بالحضارة العربية الإسلامية يتضمن في داخله ثقافات وإثنيات وعناصر ثقافية مكبوتة
لابد من الاعتراف بها، ليس كأقلية بل جعلها عنصرا من الهوية الوطنية الجامعة القادرة
على تحرير الوعي القومي الوطني للدول التي مازالت تحسب على «الشرق » بتعبير كثير
من الدارسين. لذلك فمرحلة الأزمة التي نمر منها والتي تظهر في كل المستويات
الثقافية والفكرية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية والسياسية والوجدانية
وغيرها، ليس وليد اللحظة كما يخيل للكثيرين، لكنه نتيجة تراجع حضاري بدأ في نظري
بسقوط بغداد في يد المغول خلال القرن الثالث عشر الميلادي، واستمرت نسبه ومقاديره
حسب الوضع العام الذي تشكل عبر التاريخ، والذي أعطى للحضارة الغربية مركز الصدارة
والهيمنة في وقت كانت فيه الحضارة الإسلامية، واللغة العربية رمز العالم المتحضر،
لكن منطق التاريخ يفترض ولادة وازدهار وشيخوخة واندحار. وهو ما يسم اليوم وضعنا
التاريخي الذي يعبر عن مرحلة الاندحار، وما الأزمات السياسية والثقافية التي
نعيشها، ونكتوي بنيرانها، والتي تتمظهر جلية في الحروب والصراعات، وأشكال التطرف
إلا المظاهر التي تفصح عن تلك الأزمة العميقة. إذن فكل مشكل في الحاضر يجد أسبابه
العميقة في تربة الماضي. لذلك فإن كل تناول لمشاكلنا يجب أن يكون راديكاليا
وجذريا، دون ذلك لا يمكننا أن نضع قدمنا في ركب الحضارة الكونية المعاصرة. وسنظل
نجتر المرارة والتحسر على واقع ضاع منا، أو هكذا خيل لجلنا. لذلك فإن المتأمل
عميقا في الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي سيجد أن المشكل يكمن في الثقافة،
لأن مشكلتنا بالأساس « مشكلة ثقافية »، لذلك لا يمكن حل مشاكلنا بالثورات السياسية
لوحدها كما يعتقد البعض، بل نحن في مسيس الحاجة إلى ثورة ثقافية تبدد الثقافة
البائدة التي مازالت تسكن وجداننا، من أجل الخروج من كهوف الماضي المظلمة التي
تجاوزها التاريخ، ولم نشعر بذلك أو قل بدأنا للتو بالشعور، لأن الأقوياء يتحرشون
بكياننا الحضاري، بل الآن اغتصبوا ما استطاعوا إليه سبيلا، بل إنهم يقسمون وحدتنا
الحضارية، ويخلقون وبمسميات عدة « عهد الكووس* العظيم ». لكن نحن من يتحمل القدر
الأعظم من المسؤولية تجاه وضعنا الحضاري. لأننا ارتضينا لأنفسنا ذلك ولم نستطع أن
نتأمل في قدرنا التاريخي، ولا أن نقوم بالجراحات العظيمة لأصل الداء الذي يظل
باستمرار أكبر عائق أمام انخراطنا الكامل في العالم. إن التقدم المنشود رهين،
بتغيير نظرتنا للعالم وكذا ملاءمة فكرنا للحضارة العصرية، بما تعنيه من مدنية،
وسيادة للمعرفة، وازدهار للتصنيع وانتشار للفنون والآداب. إن الحضارة التي
ورثناها، تشكل إرثا وتركة يجب أن نتوحد فيه، لكن ذلك لا يعني أن نفكر بذهن مازال
يعتقد اننا أمة واحدة، لأن الواقع يؤكد أن كل الدول التي تسمى «عربية»، إن كانت
بالفعل ضمن تلك الوحدة، إلا أن لكل دولة مشاكلها وهويتها الوطنية وكيانها الخاص.
بذلك فاستقلال القرار الوطني بعيدا عن إملاءات «الوحدة» التي كانت شعار ما بعد
الخمسينيات، لم يعد يلائم واقعنا السياسي، رغم أن التكتلات الاقتصادية والاندماج
داخل كيانات معينة، يعود بالكثير من النفع. إلا أن ذلك لا يعني فقدان القرار
الوطني. فكل دولة اليوم لها دستورها ووحدتها الوطنية القومية. ولابد لها أن تشعر
بذلك وتعي به وتدافع عنه. وحتى الشعوب العربية التي مازالت تستشعر هذه الوحدة
العربية، فذلك عنصر إيجابي وبناء، لكن كل كيان سياسي لابد أن يستقل برأيه ويحقق
نهضته الخاصة، نظرا لتميز أوضاعه وخصائصه القومية. فالنهضة المنشودة التي نظر لها
المفكرون العرب منذ محمد عبده والكواكبي ورضوان السيد، وصولا إلى الجابري والعروي
وغيرهم، لن تتم بالشكل الذي تصوروه وهو نهوض حضاري للأمة العربية كلها، فهذا
التصور الذي دافعوا عنه أملته الظروف التاريخية التي عايشوها. وهي ظروف الاستعمار
الغربي، وحلم «الأمة العربية الاشتراكية الموحدة» التي لم تتحقق قط. لأن السبب في
ذلك هو اختلاف الاوضاع داخل كل دولة. لذلك فكل نهوض لابد أن يرتبط بالدولة
الوطنية، وحدودها. وثقافتها وسياستها. لكن النهوض المأمول يحتاج إلى «وعي شقي»،
يضعنا أمام الصورة الحقيقية لوضعنا، ويدفعنا » شعبا وحكام » إلى « اختيار ما ليس
منه بد » وهو الانخراط في المجتمع الحديث والديموقراطي.
*الكووس
في الأسطورة اليونانية هي حالة الفوضى التي كان فيها العالم قبل سيادة النظام،
اللوغوس.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire