![]() |
Portrait de Giuseppe Verdi à l'écharpe blanche et haut-de-forme |
لا يمكن للإنسان بمفهومه النتشوي، اي الانسان الذي
يتجاوز انسانيته، أن يعيش ككائن بيولوجي فقط يلبي حاجاته العضوية بدون أن يلتفت
إلى تكوين جوهره باعتباره كائنا يسمو بوجوده إلى مستوى آخر يتحقق كذات. لهذا صدق
القول « ليس بالخبز فقط يعيش الانسان » فروح الفرد لابد أن تتغدى كما يتغدى جسده،
وغداء الروح في نظري هو الفن، فالفن فيه يتحقق المطلق، وتنجلي العبقرية، كما يصف
ذلك شوبنهاور في كتابه « العالم ارادة وتمثلا » فإرادة الحياة لا يمكن تجاوزها
والتغلب عليها في نظر شوبنهور إلا عن طريق، مجالات تتنصل من قبضة إرادة الحياة
العمياء، ومن بين هذه المجالات الموسيقى، فهي روح العالم، وهي لحظة تنصهر فيها
الذات الانسانية لتسمو بروحها إلى مراتب المطلق بمفهومه الفلسفي ويعتبر العزف
واللحن مظهرا من تمظهرات العبقرية والفنون كلها تحقق هذه الغاية. لكن تظل
الموسيقى، لغة العالم التي توحد، لأن فيها عنصرا يمكنه أن يخترق أي نفس بشرية
مرهفة، فكل البشر أينما وجدوا، يحسون ويشعرون، ويتوفرون على عاطفة ولغة العاطفة
الأكثر نفادا الى جوهرها هي الموسيقى، وليس هنا الموسيقى بمفهومها الشعبي، بل
العبقرية الموسيقية، كما برزت مع العمالقة الكبار، أمثال بيتهوفن وموزارت
وتشايكوفسكي وفردي وفاجنر وفيفالدي …وغيرهم ممن أبدعوا معزوفات ستظل خالدة. لأن
فيها عنصرا أصيلا لا يمكن للتاريخ أن يتجاوزه، فهذه المعزوفات التي تنتمي الى
القرن 18 والقرن 19م مازالت تأسر قلوب المستمعين، لأن فيها من الأصالة والعظمة ما
يجعلها متجددة باستمرار ، ولابد للمتلقي هنا أن يتوفر على قدر معين من فن الاصغاء،
وأن يمتلك روحا تحسن الإصغاء لا روحا تألف السفاسف من الأمور، الروح الملوثة
بالعبث وثقافة الرعاع الوضيعة والضعيفة لا يمكن أن تكتشف عبقرية الموسيقى العالمية،
فكم من جاهل قد يعتبر موسيقى فيردي، مملة ومزمجرة لا تحسسه بشيء، لكن صاحب الروح
المرهفة والإحساس الراقي سينظر إلى هذه الموسيقى على أنها قطعة من العالم، ونفسا
من أنفاس الآلهة، لكن المجتمعات المتخلفة ومن بينها المجتمعات العربية الاسلامية،
تعاني من صعوبة كبيرة في تقبل الموسيقى خصوصا والفنون عموما، فهي مازالت تستند الى
نظرة الفقهاء الذين حرموا الموسيقى، واعتبروها »مزمارا من مزامير الشيطان » لأن
العقل الديني المتزمت، دائما، ما ينظر إلى كل ما هو جميل على أنه تعبير عن أمور
محرمة، لأن الفكر الذي يقدس ثقافة الموت، ويقدس ما بعد القبور، كيف له في نظري،أن
ينظر نظرة استحسان الى كل ما هو جميل؟ لهذا السبب كثيرا ما نجد بعض التأويلات
الرجعية الظلامية، التي تعتبر النغمة، واللون، والطرب…لهوا ولغوا وانصياعا
للشيطان. ويكفينا هنا أن نتأمل في تراثنا لنجد أن أهم فترة في تاريخ الحضارة
العربية الاسلامية، كانت خلال العصر العباسي، ومعلوم أن العباسيين شجعوا الفنون
والفلسفة والعلوم والآداب، فظهور الفن في حضارة معينة، تعبير جلي عن ازدهارها
وتطورها، وغياب الفن والفكر والآداب دليل على الأزمة والتخلف. فمجالس الخلفاء
العباسيين كانت مجالس خمر ورقص وشعر وموسيقى، لأنهم لم يولوا مسائل العقيدة
المتحجرة اهتماما كبيرا، بل بالعكس قد حاربوا هذه النظرة، ولا أدل على ذلك تبنيهم
للفقه المعتزلي، الذي يعتبر العقل جوهرا أساسيا في فكرهم،و قمعهم للفكر الحنبلي
المتزمت والتكفيري الذي سيسود بعدهم حينما ستنهار حضارتهم في بغداد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire